للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (خَيْرُ الْغافِرِينَ) الَّذِي يَغْفِرُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٠] .

وَإِنَّمَا عَطَفَ جُمْلَةَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى طَلِبِ الْمَغْفِرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَعُطِفَ عَلَى الدُّعَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاغْفِرْ لَنَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْفِرَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ.

واكْتُبْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعَطَاءِ الْمُحَقِّقِ حُصُولُهُ، الْمُجَدَّدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَ عَقْدٍ أَوْ عِدَةٍ، أَوْ عَطَاءٍ، وَتَعَلُّقُهُ بِالتَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَكْتُبُ بِهِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَا يَقْبَلُ النُّكْرَانَ، وَلَا النُّقْصَانَ، وَلَا الرُّجُوعَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْكِتَابَةُ عَهْدًا، وَمِنْهُ مَا كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةِ الْقَطِيعَةِ، وَمَا كَتَبُوهُ مِنْ حِلْفِ ذِي الْمَجَازِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

حَذَرَ الْجَوْرَ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءِ

وَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ أَوِ التَّعَاقُدُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَحْتَجْ لِلْكِتَابَةِ، لِأَنَّ الْحَوْزَ أَوِ التَّمْكِينَ مُغْنٍ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها [الْبَقَرَة: ٢٨٢] فَالْمَعْنَى: آتِنَا الْحَسَنَةَ تِلْوَ الْحَسَنَةِ فِي أَزْمَانِ حَيَاتِنَا وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَفْظُ اكْتُبْ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ دُعَاءً صَادِقًا بِإِعْطَاءِ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ:

يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا (أَيْ كُلَّ ضُرٍّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُقِيتُمْ ضُرًّا مُعَيَّنًا) .

وَالْحَسَنَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ: فِي الدُّنْيَا الْمُرْضِيَةُ لِلنَّاسِ، وَلِلَّهِ تَعَالَى، فَتَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَفِي الْآخِرَةِ حَالَةُ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠١] .

وَجُمْلَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلطَّلَبِ وَالِاسْتِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلِأَنَّ مَوْقِعَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ فِي أَوَّلِهَا مَوْقِعُ الِاهْتِمَامِ، فَيُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَيُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وهُدْنا مَعْنَاهُ تُبْنَا، يُقَالُ: هَادَ يَهُودُ إِذَا رَجَعَ وَتَابَ فَهُوَ مَضْمُومُ الْهَاءِ