وَتَقْدِيمُ وَصْفِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْوَصْفُ الْأَخَصُّ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ زِيَادَةَ تَسْجِيلٍ لِتَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ حَذَفُوا هَذَا الْوَصْفَ لِيَصِيرَ كَلَامُ التَّوْرَاةِ صَادِقًا بِمَنْ أَتَى بَعْدَ مُوسَى مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتهر بِوَصْف النَّبِي الْأُمِّيِّ، فَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ كَاللَّقَبِ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ عَنْ شُهْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ حَيْثُمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ، قِيلَ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ أَيْ هُوَ أَشْبَهُ بِأُمِّهِ مِنْهُ بِأَبِيهِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي الْعَرَبِ مَا كُنَّ يَعْرِفْنَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَمَا تَعَلَّمْنَهَا إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَ تَعَلُّمُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ شِعَارِ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا قَالَ عُبَيْدٌ الرَّاعِي، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ:
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
أَمَّا الرِّجَالُ فَفِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ.
وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ أَيِ الَّذِي حَالُهُ حَالُ مُعْظَمِ الْأُمَّةِ، أَيِ الْأُمَّةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ يَصِفُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْأُمِّيِّينَ، لِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٥] .
وَالْأُمِّيَّةُ وَصْفٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ رسله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِتْمَامًا لِلْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، فَجَعَلَ الْأُمِّيَّةَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ، لِيُتِمَّ بِهَا وَصْفَهُ الذَّاتِيَّ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، لِيُظْهِرَ أَنَّ كَمَالَهُ النَّفْسَانِيَّ كَمَالٌ لَدُنِّيٌّ إِلَهِيٌّ، لَا وَاسِطَةَ فِيهِ لِلْأَسْبَابِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلْكِمَالَاتِ، وَبِذَلِكَ كَانَتِ الْأُمِّيَّةُ وَصْفَ كَمَالِ فِيهِ، مَعَ أَنَّهَا فِي غَيْرِهِ وَصْفُ نُقْصَانٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَسَدَادِ الْعَقْلِ مَا لَا يَحْتِمَلُ الْخَطَأَ فِي كُلِّ نَوَاحِي مَعْرِفَةِ الْكِمَالَاتِ الْحَقِّ، وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عِلْمِهِ، وَبَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، مَا هُوَ أَعْظُمُ مِمَّا حَصَلَ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ آيَةً عَلَى كَوْنِ مَا حَصَلَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَيُوضَاتٍ إِلَهِيَّةٍ.
وَمَعْنَى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً وِجْدَانُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ، الَّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَجُعِلَتْ خَاصَّتُهُ بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا ضمير الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّيِّ مَجَازًا بِالِاسْتِخْدَامِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute