للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلِمْتُمْ مِنْ شَهَادَةِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بنبوءته، وَمِنَ اتِّصَافِ شَرْعِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي سَمِعْتُمْ، عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ، هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَمِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ أَفْلَحُوا أَيْ دُونَ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّ مَقَامَ دُعَاءِ مُوسَى يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَكِتَابَةَ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ، وَلَا يُرِيدُ مُوسَى شُمُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَتَّبِعُ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَجِيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ جَرَى الْقَصْرُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْإِيهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا، دَالًّا عَلَى مَعْنَى كَمَالِ صِفَةِ الْفَلَاحِ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النَّبِيءَ الْأُمِّيَّ، فَفَلَاحُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ كَلَا فَلَاحٍ، إِذَا نُسِبَ إِلَى فَلَاحِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمُ الرَّحْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي تَسَعُ كُلَّ شَيْء من شؤونهم قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ

[الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] .

وَمَعْنَى عَزَّرُوهُ أَيَّدُوهُ وَقَوَّوْهُ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِصِفَاتِهِ، وَصِفَاتِ شَرِيعَتِهِ، وَإِعْلَانِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى» ، وَهُوَ أَيْضًا مُغَايِرٌ لِلنَّصْرِ، لِأَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْإِعَانَةُ فِي الْحَرْبِ بِالسِّلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ.

وَاتِّبَاعُ النُّورِ تَمْثِيلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ: شُبِّهَ حَالُ الْمُقْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ، بِحَالِ السَّارِي فِي اللَّيْلِ إِذَا رَأَى نُورًا يَلُوحُ لَهُ اتَّبَعَهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَنْجَاةً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَأَضْرَارِ السَّيْرِ، وَأَجْزَاءُ هَذَا التَّمْثِيلِ اسْتِعَارَاتٌ، فَالِاتِّبَاعُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فِيهِ، وَالنُّورُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْحَقَّ وَالرُّشْدَ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، وَأَحْسَنُ التَّمْثِيلِ مَا كَانَ صَالِحًا لِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهَاتِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَجْزَائِهِ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ:

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] .