للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْجَانِي وَيُمْسَكُ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ سِلْسِلَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِ الْمُوَكَّلِ بِحِرَاسَةِ الْأَسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧١] وَيُسْتَعَارُ الْغُلُّ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي يُؤْلِمُ وَلَا يُطَاقُ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ فَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَانَ الْأَغْلالَ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُحَرَّرِ مِنَ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ بِحَالِ مَنْ أُطْلِقَ مِنَ الْأَسْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ وَضْعَ الْأَغْلَالِ اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُعَانِيهِ الْيَهُودُ مِنَ الْمَذَلَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ نَزَلُوا فِي دِيَارِهِمْ بَعْدَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَوَالِ مُلْكِ يَهُوذَا، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ بِتَسْوِيَةِ أَتْبَاعِهِ فِي حُقُوقِهِمْ فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَيْزٌ بَيْنَ أَصِيلٍ وَدَخِيلٍ، وَصَمِيمٍ وَلَصِيقٍ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ اسْتِعَارَةِ الْأَغْلَالِ لِلذِّلَّةِ أَوْضَحُ، لِأَنَّ الْأَغْلَالَ مِنْ شِعَارِ الْإِذْلَالِ فِي

الْأَسْرِ وَالْقَوَدِ وَنَحْوِهِمَا.

وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ لَهُمَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْيَهُودِ، الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، وَلَا يَتَحَقَّقَانِ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ آمن بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ كَانَ لَهُمْ شَرْعٌ، وَكَانَ فِيهِ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْيَهُودِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ الْإِصْرَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَوَصَفَ الْأَغْلَالَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرُهُمْ، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَا تَجِدُ شَرَائِعَهُمْ وَقَوَانِينَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ خَالِيَةً مِنْ إِصْرٍ عَلَيْهِمْ، مِثْلِ تَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِثْلِ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لَا تَتَلَاقَى مَعَ السَّمَاحَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِدُهَا خَالِيَةً مِنْ رَهَقِ الْجَبَابِرَةِ، وَإِذْلَالِ الرُّؤَسَاءِ، وَشِدَّةِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَمَا كَانَ يَحْدُثُ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْغَارَاتِ، وَالتَّكَايُلِ فِي الدِّمَاءِ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ، فَأَرْسَلَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] وَلِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْوَضْعَ بِمَا يَعُمُّ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ، وَفَسَّرْنَا الْأَغْلَالَ بِمَا يُخَالِفُ الْمُرَادَ مِنَ الْإِصْرِ، وَلَا يُنَاكِدُ هَذَا مَا فِي أَدْيَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّحَلُّلِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُخَفِّفُ وَطْأَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْإِصْرِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ، يَعْنِي شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ:

فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ هَذَا النَّبِيءُ كَمَاِِ