يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِجَفَائِهِمْ وَسُوءِ خُلُقِهِمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ وَلَا يُقَابِلُهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩] ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَفْوِ أَزْمَانِهِ وَأَحْوَالِهِ إِلَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ غِيلَةً، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ مَا يَخُصُّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَقَدْ يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأُلْحِقَ بِهِ مَا يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَيَّنِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ضَابِطٌ عَظِيمٌ لِمِقْدَارِ تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ.
ثُمَّ الْعَفْوُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَسْبَقُ أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ بَقِيَّتِهَا وَلَمْ يَفْهَمِ السَّلَفُ مِنَ الْآيَةِ غَيْرَ الْعُمُومِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ «هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ» فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ» وَمَنْ قَالَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِتَالِ فَقَدْ وَهِمَ: لِأَنَّ الْعَفْوَ بَابٌ آخَرَ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَلَهُ أَسْبَابُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنَ النَّسْخِ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى الْبَيَانِ أَوِ التَّخْصِيصِ فِي اصْطِلَاحِ
أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَالْعرْف اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ أَيْ لَا تُنْكِرُهُ إِذَا خُلِّيَتْ وَشَأْنَهَا بِدُونِ غَرَضٍ لَهَا فِي ضِدِّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مُرَادِفَتِهِ لِلْمَعْرُوفِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعرف ضايع فَقَابَلَ النُّكْرَ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute