للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْأَمْرُ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنِ الضِّدِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَالِاجْتِزَاءُ بِالْأَمْرِ بِالْعُرْفِ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيجَازِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ هُنَا: لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى أُصُولِ الْمَعْرُوفِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَانْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ:

«فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ الْمُشْرِكِينَ مُبْتَدَأَةً بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَنَفَرُوا وَلَمَلَّ الدَّاعِي، لِأَنَّ الْمَنَاكِيرَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُحْدِقَةٌ بِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ الِاتِّسَامُ بِهِ وَالتَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ: لِأَنَّ شَأْنَ الْآمِرِ بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمِثْلِهِ. وَإِلَّا فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلِاسْتِخْفَافِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهَا كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

عَلَى أَنَّ خِطَابَ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِأَنْ يَأْمُرُوا بِشَيْءٍ يُعْتَبَرُ أَمْرًا لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَرْجَمَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُرْفِ كَالتَّعْرِيفِ فِي الْعَفْوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.

وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ المأمورين وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس:

٢٥] ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْمُشْرِكُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْأَمْرِ بِهَذَا الْعُمُومِ أَيْ لَا يَصُدَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِعَادَةِ إِرْشَادِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: ٦٣] .

وَالْإِعْرَاضُ: إِدَارَةُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ لِلشَّيْءِ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخَدُّ، فَإِنَّ الَّذِي

يَلْتَفِتُ لَا يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء:

٨٣] وَهُوَ هُنَا، مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يَسُوءُ مِنْ أَحَدٍ، شَبَّهَ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْعَلَمِ بِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ.

وَ «الْجَهْلُ» هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِ الْجَهْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِينَ السُّفَهَاءُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَعْظَمُ