للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَعُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ صِفَاتٍ لِتَدُلَّ الْإِشَارَةُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا لِلسَّامِعِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَصَارُوا بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ.

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ.

وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢] .

وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ.

وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ

يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا.

وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.