للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا.

وَجُمْلَةُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَسَوْقُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ دَوَابَّ صَمَّاءَ بَكْمَاءَ.

وَالتَّعْرِيضُ قَدْ يَكُونُ كِنَايَةً وَلَيْسَ مِنْ أَصْنَافِهَا فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهِيًّا، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ كَلَامٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَدْلُولِهِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢] ، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ نَحْوَ قَوْلِهِمْ لِلْجَوَادِ: جَبَانُ الْكَلْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلْبٌ، فَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ إِرَادَةَ لَازِمِ مَعْنَى لَفْظٍ مُفْرَدٍ وَلَا لَازم معنى تركيب، وَإِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ لِنُطْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ فِي سُورَةِ

الْبَقَرَةِ [٢٣٥] التَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا يُدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ يُرِيدُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا دَالًّا كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِغَيْرِهِ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ.

قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْرِيضِ قَوْلُ الْقَائِلِ- حِينَ يَسْمَعُ رَجُلًا يَسُبُّ مُسْلِمًا أَوْ يَضْرِبُهُ-:

الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ لَمْ يُرَدْ بِهِ لَازِمُ مَعْنَى أَلْفَاظٍ وَلَا لَازِمُ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ النُّطْقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِدُونِ مُقْتَضٍ لِلْإِخْبَارِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَبَيْنَ ضَرْبِ الْمَثَلِ: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ ذِكْرُ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَشْبِيهِ هَيْئَةِ مَضْرِبِهِ بِهَيْئَةِ مُورِدِهِ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ. فَالتَّعْرِيضُ كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْ مَجَازِهِ، وَيَحْصُلُ بِهِ قَصْدُ التَّعْرِيضِ مِنْ قَرِينَةِ سَوْقِهِ فَالتَّعْرِيضُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالدَّوَابِّ، فَإِنَّ الدَّوَابَّ ضَعِيفَةُ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا كَانَتْ صَمَّاءَ كَانَتْ مَثَلًا فِي انْتِفَاءِ الْإِدْرَاكِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ بُكْمًا انْعَدَمَ مِنْهَا مَا انْعَدم مِنْهَا مَا يَعْرِفُ بِهِ صَاحِبُهَا مَا بِهَا، فَانْضَمَّ عَدَمُ الْإِفْهَامِ إِلَى عَدَمِ الْفَهْمِ، فَقَوْلُهُ: الصُّمُّ الْبُكْمُ خَبَرَانِ عَنِ الدَّوَابِّ بِمَعْنَاهُمَا الْحَقِيقِيِّ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّوْصِيفِ لِأَنَّ الَّذِينَ