للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَثْبُتْ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا صَحَّ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ كَانَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الْمُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الْأَنْفَالِ فَإِنَّ بَيْنَ الْحَادِثَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ وَيُقَرِّبُ هَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ انْتِفَاءِ وُقُوعِ خِيَانَةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْخَوْنُ وَالْخِيَانَةُ: إِبْطَالُ وَنَقْضُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ تَعَاقُدٍ مِنْ دُونِ إِعْلَانٍ بِذَلِكَ النَّقْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: ٥٨] وَالْخِيَانَةُ ضِدَّ الْوَفَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَأَصْلُ مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْوَفَاءِ التَّمَامُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَوْنُ فِي ضِدِّ الْوَفَاءِ لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ» أَيْ وَاسْتُعْمِلَ الْوَفَاءُ فِي الْإِتْمَامِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّ مَنْ أَنْجَزَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَتَمَّ عَهْدَهُ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ.

فَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَهْدٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَمَا حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْعَلَنِيَّةِ حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْخَفِيَّةِ.

وَتَشْمَلُ الْخِيَانَةُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي لَا تَخُونُوا، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ فَهِيَ مُرَادٌ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَتَشْمَلُ الْغُلُولَ الَّذِي حَامُوا حَوْلَهُ فِي قَضِيَّةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلَ بَعْضُهُمُ النَّفَلَ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَتَتَبَّعُونَ آثَار الْقَتْلَى ليتنفلوا مِنْهُمْ، تَعَيَّنَ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَلِكَ مُنَاسِبَةُ وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ سَوَاءٌ صَحَّ مَا حُكِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِقَرِينَاتِهَا.

وَفِعْلُ «الْخِيَانَةِ» أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخُونُ، وَقَدْ يُعَدَّى تَعْدِيَةً ثَانِيَةً إِلَى مَا وَقَعَ نَقْضُهُ، يُقَالُ: خَانَ فُلَانًا أَمَانَتَهُ أَوْ عَهْدَهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ خَانَهُ فِي عَهْدِهِ أَوْ فِي أَمَانَتِهِ، فَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَخُوفِ ابْتِدَاءً،

وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَخُونِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ أَيْ فِي أَمَانَاتِكُمْ أَيْ وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِكُمْ.

وَالنَّهْيُ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ هُنَا: إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي قَضِيَّةِ أَبِي لُبَابَةَ: أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى مَا فِي تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنَ الضُّرِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ خِيَانَةً لِمَنْ بَعَثَهُ مُسْتَفْسِرًا، لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَشَارٍ.