وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ قَرِينَاتِهَا فَنَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ اسْتِطْرَادٌ لِاسْتِكْمَالِ النَّهْيِ عَنْ أَنْوَاعِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَصْلِيِّ، إِلَى ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْمُتَّسَعِ فِيهِ، لِقَصْدِ تَبْشِيعِ الْخِيَانَةِ بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِلْأَمَانَةِ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَصْفٌ مَحْمُودٌ مَشْهُورٌ بِالْحُسْنِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا يَكُونُ نَقْضًا لَهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَظِيعًا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِهِمْ فَهَذَا حَذْفٌ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالْأَمَانَةُ اسْمٌ لِمَا يَحْفَظُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ يَأْمَنُهُ مِنْ أَنْ يُضَيِّعَهَا، وَالْأَمِينُ الَّذِي يَحْفَظُ حُقُوقَ مَنْ يُوَالِيهِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتِ الْأَمَانَاتُ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَفْظِيعِ الْخِيَانَةِ، بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِأَمَانَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى نَاقِضِهَا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] دُونَ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ.
وَلِلْأَمَانَةِ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَا ثَبَتُوا عَلَيْهَا وَتَخَلَّقُوا بِهَا، وَهِيَ دَلِيلُ نَزَاهَةِ النَّفْسِ وَاعْتِدَالِ أَعْمَالِهَا، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِي إِضَاعَتِهَا انْحِلَالَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثِينَ: رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ عَلَى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» .
(الْوَكْتُ سَوَادٌ يَكُونُ فِي الْبُسْرِ إِذَا قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا، وَالْمَجْلُ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ، وَنَفِطَ تَقَرَّحَ وَمُنْتَبِرًا مُنْتَفِخًا) ، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ إِذْ قَالَ فِي آخِرِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَحَسْبُكَ مِنْ رَفْعِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ:
أَنْ كَانَ صَاحِبُهَا حَقِيقًا بِوِلَايَةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَانَةٌ لَهُمْ وَنُصْحٌ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute