وَالْبِنَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلْوِقَايَةِ سَوَاءً كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَدَمٍ أَوْ مِنْ شَعْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا تَزَوَّجَ لِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَ يَجْعَلُ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَقَدِ اشْتَهَرَ اطلاق الْبناء على الْقبَّة مَنْ أَدَمٍ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْأَدَمَ الَّذِي تُبْنَى مِنْهُ الْقِبَابُ مَبْنَاةً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٢] :
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً.
فَإِنْ قُلْتَ يَقْتَضِي كَلَامُكَ هَذَا أَنَّ الِامْتِنَانَ بِجَعْلِ السَّمَاءِ كَالْبِنَاءِ لِوِقَايَةِ النَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْتَ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَجْيَالُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ زَمَانِ النُّزُولِ فَمَاذَا يَكُونُ حَظُّ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ بَيْنَهُمُ الْآيَة:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠] فِي عِدَّةِ أَجْيَالٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاءِ خَاصِّيَّةَ الْبِنَاءِ فِي الْوِقَايَةِ وَغَايَةُ مَا كَانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ أَنَّ السَّمَاءَ تُشْبِهُ سَقْفَ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ حِينَ سُئِلَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّجُومِ: أَيَجْهَلُ أَحَدٌ خَرَزَاتٍ مُعَلَّقَةً فِي سقفه فتتمحض الْآيَةُ لِإِفَادَةِ الْعِبْرَةِ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الِامْتِنَانِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَكُمُ فَهَلْ نَخُصُّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِ جَعَلَ الْمُصَرَّحِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالْفِعْلِ
الْمَطْوِيِّ تَحْتَ وَاوِ الْعَطْفِ، أَوْ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فِراشاً فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالسَّماءَ بِناءً مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمُولِ فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمُتَعَلِّقِ.
قُلْتُ: هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّحَكُّمِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لَكُمُ تَحَكُّمًا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لِلسَّامِعِ بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ لَكُمُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ جَعَلَ وَيَكْفِي فِي الِامْتِنَانِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ إِشْعَارُ السَّامِعِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَا فِي إِقَامَةِ الْبِنَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِيَفْرِضَهُ السَّامِعُونَ عَلَى مِقْدَارِ قَرَائِحِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ فِي قَابِلِ الْأَجْيَالِ.
وَحُذِفَ (لَكُمْ) عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ إِيجَازًا لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي قَوْله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَ (جَعَلَ) إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَوْجَدَ فَحَمْلُ الِامْتِنَانِ هُوَ إِنْ كَانَتَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ قَدِ انْتَقَلَتَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حَتَّى صَارَتَا كَمَا هُمَا وَصَارَ أَظْهَرَ فِي مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ وَقَوَاعِدُ عِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجْيَا) تُؤْذِنُ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مِنَّتَانِ وَعِبْرَتَانِ فِي جَعْلِهِمَا عَلَى مَا رَأَيْنَا وَفِي الْأَطْوَارِ الَّتِي انْتَقَلَتَا فِيهِمَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٠- ٣٢]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute