وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ وَضَرَبَ الْعِبْرَةَ بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَظْهَرِهَا لِسَائِرِ النَّاسِ حَاضِرِهِمْ وَبَادِيهِمْ وَبِأَوَّلِ الْأَشْيَاءِ فِي شُرُوطِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَفِيهِمَا أَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ وَهُمَا الْهَوَاءُ وَالْمَاءُ النَّابِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَفِيهِمَا كَانَتْ أَوَّلُ مَنَافِعِ الْبَشَرِ. وَفِي تَخْصِيصِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالذِّكْرِ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّمْهِيدُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً إِلَخْ. وَابْتَدَأَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُعْتَبِرِ ثُمَّ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إِلَى مَا يُحِيطُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ إِلَخْ هَذَا امْتِنَانٌ بِمَا يَلْحَقُ الْإِيجَادَ مِمَّا يَحْفَظُهُ مِنَ الاختلال وَهُوَ خلقَة لِمَا تُتْلِفُهُ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالْعَمَلُ الْعَصَبِيُّ وَالدِّمَاغِيُّ مِنَ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لِيَدُومَ قِوَامُ الْبَدَنِ بِالْغِذَاءِ وَأَصْلُ الْغِذَاءِ هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ النَّبَاتَ بِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ أَيْ مِنَ السَّحَابِ وَالطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمَاءِ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ هُوَ أَنَّ تَكَوُّنَهُ يَكُونُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ مِنْ آثَارِ
الْبُخَارِ الَّذِي فِي الْجَوِّ فَإِن الجو ممتلىء دَائِمًا بِالْأَبْخِرَةِ الصَّاعِدَةِ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنْ مِيَاهِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَمِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ وَمِنَ النَّبَاتِ وَلِهَذَا نَجِدُ الْإِنَاءَ الْمَمْلُوءَ مَاءً فَارِغًا بَعْدَ أَيَّامٍ إِذَا تُرِكَ مَكْشُوفًا لِلْهَوَاءِ فَإِذَا بَلَغَ الْبُخَارُ أَقْطَارَ الْجَوِّ الْعَالِيَةَ بَرَدَ بِبُرُودَتِهَا وَخَاصَّةً فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ فَإِذَا بَرَدَ مَالَ إِلَى التَّمَيُّعِ، فَيَصِيرُ سَحَابًا ثُمَّ يَمْكُثُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بِحَسَبِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ بُرُودَةِ الطَّبَقَاتِ الْجَوِّيَّةِ وَالْحَرَارَةِ الْبُخَارِيَّةِ فَإِذَا زَادَتِ الْبُرُودَةُ عَلَيْهِ انْقَبَضَ السَّحَابُ وَثَقُلَ وَتَمَيَّعَ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ الْفَقَاقِيعُ الْمَائِيَّةُ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتُنْزِلُ مَطَرًا وَهُوَ مَا أَشَارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. [الرَّعْد: ١٢] وَكَذَلِكَ إِذَا تَعَرَّضَ السَّحَابُ لِلرِّيحِ الْآتِيَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ وَهِيَ رِيحٌ نَدِيَّةٌ ارْتَفَعَ الْهَوَاءُ إِلَى أَعْلَى الْجَوِّ فَبَرَدَ فَصَارَ مَائِعًا وَرُبَّمَا كَانَ السَّحَابُ قَلِيلًا فَسَاقَتْ إِلَيْهِ الرِّيحُ سَحَابًا آخَرَ فَانْضَمَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَنَزَّلَا مَطَرًا، وَلِهَذَا غَلَبَ الْمَطَرُ بَعْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ الْبَحْرِيَّةِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَنْشَأَتْ بِحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ»
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْحَرَارَةَ وَقِلَّةَ الضَّغْطِ يَزِيدَانِ فِي صُعُودِ البخار وَفِي قُوَّة انْبِسَاطِهِ وَالْبُرُودَةَ وَكَثْرَةَ الضَّغْطِ يُصَيِّرَانِ الْبُخَارَ مَائِعًا وَقَدْ جُرِّبَ أَنَّ صُعُودَ الْبُخَارِ يَزْدَادُ بِقَدْرِ قُرْبِ الْجِهَةِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَيَنْقُصُ بِقَدْرِ بُعْدِهِ عَنْهُ وَإِلَى بَعْضِ هَذَا يُشِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ صَخْرَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَإِنَّ الْعَرْشَ هُوَ اسْمٌ لِسَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالصَّخْرَةُ تَقْرِيبٌ لِمَكَانٍ ذِي بُرُودَةٍ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَطَرَ تُنْشِئُهُ الْبُرُودَةُ فَيَتَمَيَّعُ السَّحَابُ فَكَانَتِ الْبُرُودَةُ هِيَ لِقَاحُ الْمَطَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute