للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (عَرَضَ الدُّنْيا) هُوَ الْمَالُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ قَلِيلُ اللُّبْثِ، فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الْعَارِضَ إِذِ الْعُرُوضُ مُرُورُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ مُكْثِهِ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْمَاشِينَ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ.

وَالْمُرَادُ عَرَضُ الدُّنْيَا الْمَحْضُ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِهِ.

وَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، أَيْ: تُحِبُّونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُحِبُّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، أَيْ يُحِبُّ لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَعُلِّقَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ بِذَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَهُوَ حَذْفُ مُضَافٍ لِلْإِيجَازِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُهُ أَنَّ الْآخِرَةَ الْمُرَادَةَ لِلْمُؤْمِنِ لَا يُخَالِطُ نَفْعَهَا ضُرٌّ وَلَا مَشَقَّةٌ، بِخِلَافِ نَفْعِ الدُّنْيَا.

وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الدُّنْيا الْمُضَافُ وَلَمْ يُحْذَفْ: لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ إِشْعَارًا بِعُرُوضِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ.

وَإِنَّمَا أَحَبَّ اللَّهُ نَفْعَ الْآخِرَةِ: لِأَنَّهُ نَفْعٌ خَالِدٌ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَصَلَاحُ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ أَمَارَاتٍ، هِيَ أَمَارَاتُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَكُلُّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ نَفْعِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا فِيهِ نَفْعٌ مِنَ الْآخِرَةِ فَفِيهِ مَحَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفِدَاءُ الَّذِي أَحَبُّوهُ لَمْ يَكُنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ، وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ عِتَابَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى

اخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ اسْتَشَارَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى نَوَايَا فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْجَيْشِ، حِينَ تَخَيَّرُوا الْفِدَاءَ أَيْ أَنَّهُمْ مَا رَاعَوْا فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْمَالِ لِنَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّ حَقِيقًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَنْسَوْا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمُ، الِالْتِفَاتَ إِلَى نَفْعِ الدِّينِ وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الِاسْتِشَارَةِ «قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ» فَنَظَرَ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلْحَظَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَيْشِ.

وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُحِبُّونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لَكُمُ الثَّوَابَ وَقُوَّةَ