وَالْإِثْخَانُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي الْأَذَى. يُقَالُ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى شِدَّةِ الْجِرَاحَةِ عَلَى الْجَرِيحِ. وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. فَالْمَعْنَى: حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَأَمْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ عَلَى هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ فِي الدُّنْيَا. وَحَمَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى مَعْنَى إِثْخَانِ الْجِرَاحَةِ، فَيَكُونُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمقَاتل الَّذِي يجرج قِرْنَهُ جِرَاحًا قَوِيَّةً تُثْخِنُهُ، أَيْ حَتَّى يُثْخِنَ أَعْدَاءَهُ فَتَصِيرَ لَهُ الْغَلَبَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ الْمَوَاقِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ قَرِينَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالْكَلَامُ عِتَابٌ لِلَّذِينَ أَشَارُوا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي قَطْعِ دَابِرِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ فِي هَلَاكِهِمْ خَضْدًا لِشَوْكَةِ قَوْمِهِمْ فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلْمُقْتَضَى السِّيَاسِيِّ الْعَرَضِيِّ عَلَى الْمُقْتَضَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّيْسِيرُ والرفق فِي شؤون الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
[الْفَتْح: ٢٩] . وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَسْلَكُ السِّيَاسِيُّ خَفِيًّا حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ سَبَقُوا إِلَى الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَكُونَ لَهُ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى أُسْلُوبِ التَّذْكِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ- عَلَى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ أَشَارُوا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُعَاتَبٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ وَجُمْلَةُ: تُرِيدُونَ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute