وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ أَثْبَتَتْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِثْبَاتًا مُتَوَاتِرًا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِنَبِيِّنَا عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ آحَادٍ وَثَبَتَ مِنْ جَمِيعِهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا وَهُوَ وُقُوعُ أَصْلِ الْإِعْجَازِ بِتَوَاتُرٍ مَعْنَوِيٍّ مِثْلُ كَرَمِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَمْرٍو فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِعْجَازُهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ النَّقْلِيِّ أَدْرَكَ مُعْجِزَتَهُ الْعَرَبُ بِالْحِسِّ، وَأَدْرَكَهَا عَامَّةُ غَيْرِهِمْ بِالنَّقْلِ، وَقَدْ تُدْرِكُهَا الْخَاصَّةُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْحِسِّ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ.
أَمَّا إِدْرَاكُ الْعَرَبِ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهُمْ كذبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناوؤه وَأَعْرَضُوا عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَحَاجَّهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِهِ بِكَلَامٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ دَلِيلَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ لُغَتِهِمْ وَمِنْ كَلِمَاتِهَا وَعَلَى أَسَالِيبِ تَرَاكِيبِهَا، وَأَوْدَعَ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ مَا عَرَفُوا أَمْثَالَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ ثُمَّ حَاكَمَهُمْ إِلَى الْفَصْلِ فِي أَمْرِ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ بِحُكْمٍ سَهْلٍ وَعَدْلٍ، وَهُوَ مُعَارَضَتُهُمْ لِمَا أَتَى بِهِ أَوْ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَهَاتِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْمُعَارَضَةَ فَكَانَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
عَجْزُهُمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحَالُ حَدَّ الْإِطَاقَةِ لِأَذْهَانِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ لَوِ اجْتَمَعَتْ أَذْهَانُهُمْ وَانْقَدَحَتْ قَرَائِحُهُمْ وَتَآمَرُوا وَتَشَاوَرُوا فِي نَوَادِيهِمْ وَبِطَاحِهِمْ وَأَسْوَاقِ مَوْسِمِهِمْ، فَأَبْدَى كُلُّ بَلِيغٍ مَا لَاحَ لَهُ مِنَ النُّكَتِ وَالْخَصَائِصِ لَوَجَدُوا كُلَّ ذَلِكَ قَدْ وَفَتْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِهِ وَأَتَتْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ، ثُمَّ لَوْ لحق بهم لَا حق، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فَأَبْدَى مَا لَمْ يُبْدُوهُ مِنَ النُّكَتِ لَوَجَدَ تِلْكَ الْآيَةَ الَّتِي انْقَدَحَتْ فِيهَا أَفْهَامُ السَّابِقَيْنِ وَأَحْصَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْخَصَائِصِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَاحَ لِهَذَا الْأَخِيرِ وَأَوْفَرَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدْرَكَهُ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ بِفِطَرِهِمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ عِلْمًا بِأَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَرَجَاحَةِ الرَّأْيِ بِحَيْثُ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلِافْتِضَاحِ وَلَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِقَاصِ لِذَلِكَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ أَجْدَى بِهِمْ وَاحْتَمَلُوا النِّدَاءَ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السُّكُوتَ يَقْبَلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْأَنَفَةِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْمُعَارَضَةُ الْقَاصِرَةُ عَنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لِبُلُوغِهِ حَدًّا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْبَشَرُ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَجْزُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِهَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute