للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِمِثْلِهِ وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَعْيَانِ الْأَشَاعِرَةِ مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ.

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُمْكِنَةً مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةُ وَلَكِنَّهُمْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ التَّصَدِّي لَهَا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ صَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ أَيْضًا وَهُوَ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مِنْ قَوْلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي «إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قَائِلًا وَقد نسبه التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» إِلَى الْقَائِلِينَ إِنَّ الْإِعْجَازَ بِالصِّرْفَةِ (١) وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ كَمَا فِي

«الْمَقَاصِدِ» وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِيًا فِي أَنَّ عَجْزَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِتَعْجِيزِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هُوَ مَسْلَكٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْعَرَبِ لِلْمُعَارَضَةِ تَعَاجُزًا لَا عَجْزًا؟ وَبعد فَمن آمننا أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ قَدْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا مَا عَارَضُوا بِهِ؟ قُلْتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ تَعَاجُزًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي أُمَّةٍ مُنَاوِئَةٍ لَهُ مُعَادِيَةٍ لَا كَمَا بُعِثَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوَالِينَ مُعَاضِدِينَ لَهُ وَمُشَايِعِينَ فَكَانَتِ الْعَرَبُ قاطبة مُعَارضَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ بِالْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَتِّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا نفر قَلِيل مستضعفين بَيْنَ قَوْمِهِمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ أَنْ قَاطَعُوهُ ثُمَّ أَمَرُوهُ بِالْخُرُوجِ بَيْنَ هَمٍّ بِقَتْلِهِ وَاقْتِصَارٍ عَلَى إِخْرَاجِهِ كُلُّ هَذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الْمَنْقُولَةِ نَقْلًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُنَا عَلَيْهِ عَلَى الْكَذِبِ وَدَامُوا عَلَى مُنَاوَأَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ يَصُدُّونَهُ عَنِ الْحَجِّ وَيَضْطَهِدُونَ أَتْبَاعَهُ إِلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُنَاوَأَةُ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ يُمْكِنُ فِي خِلَالِهِ كَتْمُ الْحَوَادِثِ وَطَيُّ نَشْرِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُدَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.


(١) وَقعت كلمة الصرفة فِي عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين وَمِنْهُم أَبُو بكر الباقلاني فِي كِتَابه «إعجاز الْقُرْآن» وَلم أر من ضبط الصَّاد مِنْهُ فَيجوز أَن يكون صَاده مَفْتُوحًا على زنة الْمرة مرَادا بهَا مُطلق وجود الصّرْف وَالْأَظْهَر أَن يكون الصَّاد مَقْصُورا على صِيغَة الْهَيْئَة أَي حرفا مَخْصُوصًا بقدرة الله ويشعر بِهَذَا قَول الباقلاني فِي كتاب «إعجاز الْقُرْآن» صرفهم الله عَنهُ ضربا من الصّرْف.