وَتَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَإِقَامَةِ الْحَجِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٩٧] .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ يُشْبِهُ تَفْضِيلَ النَّاسِ، فَتَفْضِيلُ النَّاسِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَتَفْضِيلُ غَيْرِهِمْ مِمَّا لَا إِرَادَةَ لَهُ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، الْوَاقِعَةِ فِيهِ، أَوِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ. فَتَفْضِيلُ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَبَرٍ مِنْهُ، أَوْ بِإِطْلَاعٍ عَلَى مُرَادِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا فَضَّلَهَا جَعَلَهَا مَظَانَّ لِتَطَلُّبِ رِضَاهُ، مِثْلَ كَوْنِهَا مَظَانَّ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، أَوْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: ٣] أَيْ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»
وَاللَّهُ الْعَلِيمُ
بِالْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُضِّلَ زَمَنٌ عَلَى زَمَنٍ، وَفُضِّلَ مَكَانٌ عَلَى مَكَانٍ وَالْأُمُورُ الْمَجْعُولَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ شؤون وَأَحْوَالٌ أَرَادَهَا اللَّهُ، فَقَدَّرَهَا، فَأَشْبَهَتِ الْأُمُورَ الْكَوْنِيَّةَ، فَلَا يُبْطِلُهَا إِلَّا إِبْطَالٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَبْطَلَ تَقْدِيسَ السَّبْتِ بِالْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَجْعَلُوا تَفْضِيلًا فِي أَوْقَاتٍ دِينِيَّةٍ: لِأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي يَجْعَلُهَا النَّاسُ تُشْبِهُ الْمَصْنُوعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَتْ بِهَا مَقَاصِدُ صَالِحَةٌ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُغَيِّرُوا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ لِأَزْمِنَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ أَوْ نَاسٍ.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ: مِنْ عِدَّةِ الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَعِدَّةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. أَيْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنِ اعْتَرَاهُ التَّبْدِيلُ أَوِ التَّحَكُّمُ فِيهِ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي صِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ.
وَالدِّينُ: النِّظَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْخَالِقِ الَّذِي يُدَانُ النَّاسُ بِهِ، أَيْ يُعَامَلُونَ بِقَوَانِينِهِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩] ، كَمَا وُصِفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute