بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرّوم: ٣٠] .
فَكَوْنُ عِدَّةِ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ تَحَقَّقَ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
وَكَوْنُ أَرْبَعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَشْهُرًا حُرُمًا تَحَقَّقَ بِالْجَعْلِ التَّشْرِيعِيِّ لِلْإِشَارَةِ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَنَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً حُرُمًا اعْتُبِرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِذَلِكَ نُسِخَ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ ضَبْطِ مَوَاقِيتِ الْأَعْيَادِ الدِّينِيَّةِ بِالتَّارِيخِ الشَّمْسِيِّ، وَأُبْطِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ وَجُمْلَةُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَإِنَّهَا، لَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ، أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ تَعْظِيمَ حُرْمَتِهَا بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ فِيهَا.
فَالضَّمِير الْمَجْرُور بفي عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ: لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ التَّحْذِيرِ مِنِ ارْتِكَابِ الظُّلْمِ فِيهَا، وَإِلَّا لَكَانَ مُجَرَّدُ اقْتِضَابٍ بِلَا مُنَاسِبَةٍ، وَلِأَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ ادَّعَيَا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ هُنَّ كَمَا قَالَ هُنَا فِيهِنَّ إِنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ (هَا) يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُمُوعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ التَّأْنِيثِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ مِنَ اللَّيَالِي «خَلَوْنَ» وَفِيمَا فَوْقَهَا «خَلَتْ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ضَمِيرَ فِيهِنَّ بِالْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْمَعَاصِي فِي جَمِيعِ السَّنَةِ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute