للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي ضَمَائِرِ التَّأْنِيث بَين فيهاو فِيهِنَّ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ تَفَنُّنٌ وَظُلْمُ النَّفْسِ هُوَ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى الْعَذَابِ، فَكَانَ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النِّسَاء: ٦٤] الْآيَةَ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ

[النِّسَاء: ١١٠] .

وَالْأَنْفُسُ تُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَنْفُسُ الظَّالِمِينَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَظْلِمُوا أَيْ لَا يَظْلِمْ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمَعَاصِي فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالنَّهْيِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُتَلَبِّسًا بِالْعِبَادَةِ فِيهَا فَلْيُكَنْ غَيْرَ مُتَلَبِّسٍ بِالْمَعَاصِي، وَلَيْسَ النَّهْيُ عَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ لَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَعْظَمُ وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَكْثَرُ أَجْرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٩٧] فَإِنَّ الْفُسُوقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَفِي غَيْرِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ أَنْفُسَ غَيْرِ الظَّالِمِينَ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ كَالنَّفْسِ مِنَ الْجَسَدِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] ، أَيْ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ فِيهَا عَلَى أَرْجَحِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان:

١٦٤] وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا تَأْكِيدُ حُكْمِ الْأَمْنِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، أَيْ لَا يَعْتَدِي أَحَدٌ عَلَى آخَرَ بِالْقِتَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة:

٩٧] وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ لِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ هَذَا تَأْكِيدًا لِمَنْطُوقِ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: ٢] وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ

[التَّوْبَة: ٥] وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: ٧] وَقَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ

[الْبَقَرَة: ١٩٤] . وَلِذَلِكَ لَا يُشْكَلُ الْأَمْرُ بِمُقَاتَلَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَوَازِنَ أَيَّامًا مِنْ ذِي الْقعدَة لأَنهم ابتدأوا بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا كَانَ لِيَكُفَّ الْقِتَالَ عِنْدَ مُشَارَفَةِ هَزِيمَةِ الْمُشْركين وهم بدأوهم أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ يَكُونُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدِ انْتَهَى بِانْقِرَاضِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ بَعْدَ سَنَةِ الْوُفُودِ.