وَالْمَحْمَلُ الْأَوَّلُ لِلْآيَةِ أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَأَخَذَ بِالْمَحْمَلِ الثَّانِي جَمَاعَةٌ: فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ حَرَّمَتِ الْآيَةُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِإِبَاحَةِ الْجِهَادِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُكَمِّلَةً لِمَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ بِلَادِ الْعَرَبِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جُمْهُورِ الْقَبَائِلِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَهُمُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ:
يَحْرُمُ الْغَزْوُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يَبْدَأَ الْعَدُوُّ فِيهَا بِالْقِتَالِ وَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أَحْسَبُ أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ مِنْ ظَنِّ أَنَّ النَّهْي عَن انْتِهَاء الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا إِذا بدأوا بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهَذَا يُؤْذَنُ التَّشْبِيهُ التَّعْلِيلِيُّ فِي قَوْلِهِ: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلَا تَنْتَهِكُوا حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالْمَعَاصِي، أَوْ بِاعْتِدَائِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَإِن هم بادأوكم بِالْقِتَالِ فَقَاتِلُوهُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٤] فَمَقْصُودُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ فِي قِتَالِهِمُ الْمُسْلِمِينَ.
وكَافَّةً كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ بِمَنْزِلَةِ (كُلٍّ) لَا يَخْتَلِفُ لَفْظُهَا بِاخْتِلَافِ الْمُؤَكَّدِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَلَا مِنْ تَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَفِّ عَنِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَمَحَلُّهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُؤَكَّدِ بِهَا، فَهِيَ فِي الْأَوَّلِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْمِيمِ الذَّوَاتِ تَعْمِيمُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِعُمُومِ الذَّوَاتِ، أَيْ كُلُّ فِرَقِ الْمُشْرِكِينَ، فَكُلُّ فَرِيقٍ وُجِدَ فِي حَالَةٍ مَا، وَكَانَ قَدْ بَادَأَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَالْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute