وَقَدِ اسْتُضْعِفَ هَذَا الْوَجْهُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ النَّحْوِ قَرَّرُوا امْتِنَاعَ عَطْفِ أَمْرٍ مُخَاطَبٍ عَلَى أَمْرٍ مُخَاطَبٍ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بالنداء نَحْو قُم يَا زَيْدُ وَاكْتُبْ يَا عَمْرُو، وَهَذَا لَا نِدَاءَ فِيهِ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» أَنَّ بَشِّرِ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ مُقَدَّرًا قَبْلَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا [الْبَقَرَة: ٢١] وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاحِ» إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدِّرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٢٤] أَيْ فَأَنْذِرِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ ظَاهِرِ كَلَامِ النُّحَاةِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَعْبَأْ بِهِ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّ مَنْعَ النُّحَاةِ إِذَا انْتَفَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْمُخَاطَبِينَ وَالنِّدَاءُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَرِينَةِ نَحْوُ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩] اهـ. يُرِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ فَهُوَ كَافٍ وَإِنَّمَا خَصَّ النُّحَاةُ النِّدَاءَ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ قَرِينَةً وَاخْتِلَافُ الْأَمْرَيْنِ هُنَا بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ دَالٌّ عَلَى الْمُرَادِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ مَا يُقَابِلُ مَا فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَقُوبِلَ الْإِنْذَارُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ [الْبَقَرَة: ٢٤] بِالتَّبْشِيرِ وقوبل النَّاسُ [الْبَقَرَة: ٢١] الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَقُوبِلَ (النَّارُ) بِالْجَنَّةِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ طِبَاقَاتٍ.
وَالتَّبْشِيرُ الْإِخْبَارُ بِالْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ. وَقَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى التَّبْشِيرِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ (بِالْفَتْحِ) غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَكْفِي عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمُخْبِرِ (بِالْكَسْرِ) عِلْمَ الْمُخْبَرِ (بِالْفَتْحِ) فَإِنَّ الْمُخْبِرَ (بِالْكَسْرِ) لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمُخْبِرُ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ لَمْ يَصِحَّ الْإِخْبَارُ إِلَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ الْخَبَرُ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ أَوْ فِي تَوْبِيخٍ وَنَحْوِهِ.
وَالصَّالِحَاتُ جَمْعُ صَالِحَةٍ وَهِيَ الْفِعْلَةُ الْحَسَنَةُ فَأَصْلُهَا صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ صَالِحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَلَا يُقَدِّرُونَ مَوْصُوفًا مَحْذُوفًا قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينَا
وَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَجْهُ تَأْنِيثِهَا لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ لِلِاسْمِيَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ يُحَدَّدُ مِقْدَارُهُ بِالتَّكْلِيفِ وَالِاسْتِطَاعَةِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ كَوْنِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يَغْفِرُ الصَّغَائِرَ فَيَجْعَلُهَا كَالْعَدَمِ.
فَإِن قلت: إِذا لَمْ يَقُلْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَةَ بِالْإِفْرَادِ فَقَدْ قَالُوا إِنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْمَجْمُوعِ، قُلْتُ تِلْكَ عِبَارَةٌ سَرَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعُُِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute