للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الْخَالِق لَا يستحي مِنْ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِمَّا يستحي مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَالِقِهَا وَالْمُتَصَرِّفِ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ هُنَا مُحَاكَاةً لقَولهم أما يستحي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ.

فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانٍ حَقِيرَةٍ غَيْرَ مُخِلٍّ بِالْبَلَاغَةِ

فَمَا بَالُنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النَّقْدِ قَدْ نَقَدُوا مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَثَلٍ هَذَا كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

مِنْ عِزِّهِمْ حَجَرَتْ كُلَيْبٌ بَيْتَهَا ... زَرْبًا كَأَنَّهُمُ لَدَيْهِ الْقُمَّلُ

وَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

أَمَاتَكُمُ مِنْ قَبْلِ مَوْتِكُمُ الْجَهْلُ ... وَجَرَّكُمُ مِنْ خِفَّةٍ بِكُمُ النَّمْلُ

وَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ:

وَلَوْ أَنَّ بُرْغُوثًا عَلَى ظَهْرِ قَمْلَةٍ ... يَكُرُّ عَلَى ضَبْعَيْ تَمِيمٍ لَوَلَّتِ

قُلْتُ أُصُولُ الِانْتِقَادِ الْأَدَبِيِّ تُؤَوَّلُ إِلَى بَيَانِ مَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَدِيبِ مِنْ جَانِبِ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَمِنْ جَانِبِ صُوَرِ الْمَعَانِي، وَمِنْ جَانِبِ الْمُسْتَحْسَنِ مِنْهَا وَالْمَكْرُوهِ وَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ وَمَدَارِكِ الْعُقُولِ وَأَصَالَةِ الْأَفْهَامِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْأَدَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَقْبُولًا عِنْدَ قَوْمٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَخِرَيْنِ، وَمَقْبُولًا فِي عَصْرٍ مَرْفُوضًا فِي غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ يُخَاطِبُ الْمَلِكَ النُّعْمَانَ:

فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ

فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمَلِكِ بِاللَّيْلِ لَوْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الْمُوَلَّدِينَ لَعُدَّ مِنَ الْجَفَاءِ أَوِ الْعَجْرَفَةِ، وَكَذَلِكَ تَشْبِيهُهُمْ بِالْحَيَّةِ فِي الْإِقْدَامِ وَإِهْلَاكِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِ ذِي الْإِصْبَعِ:

عَذِيرَ الْحَيِّ مِنْ عَدَوَا ... نَ كَانُوا حَيَّةَ الْأَرْضِ

وَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:

مَاذَا رُزِئْنَا بِهِ مِنْ حَيَّةٍ ذَكَرٍ ... نَضْنَاضَةٍ بِالرَّزَايَا صِلِّ أَصْلَالِ

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَب أَن عليّا بْنَ الْجَهْمِ مَدَحَ الْخَلِيفَةَ الْمُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ:

أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي وَفَائِكَ بِالْعَهْ ... دِ وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوبُُِ