للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ بَغْدَادَ وَعَلِقَتْ نَضَارَةُ النَّاسِ بِخَيَالِهِ قَالَ فِي أَوَّلِ مَا قَالَهُ:

عُيُونُ الْمَهَا بَيْنَ الرَّصَافَةِ وَالْجِسْرِ ... جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلَا أَدْرِي (١)

وَقَدِ انْتَقَدَ بَشَّارٌ عَلَى كُثَيِّرٍ قَوْلَهُ:

أَلَا إِنَّمَا لَيْلَى عَصَا خَيْزُرَانَةٌ ... إِذَا لَمَسُوهَا بِالْأَكُفِّ تَلِينُ

فَقَالَ لَوْ جَعَلَهَا عَصَا مُخٍّ أَوْ عَصَا زُبْدٍ لَمَا تَجَاوَزَ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَصَا، عَلَى أَنَّ بَشَّارًا هُوَ الْقَائِلُ:

إِذَا قَامَتْ لِجَارَتِهَا تَثَنَّتْ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا مِنْ خَيْزُرَانِ

وَشَبَّهَ بِشَارٌ عَبْدَةَ بِالْحَيَّةِ فِي قَوْلِهِ:

وَكَأَنَّهَا لَمَّا مَشَتْ ... أَيْمٌ تَأَوَّدَ فِي كَثِيبْ

وَالِاسْتِحْيَاءُ وَالْحَيَاءُ وَاحِدٌ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَقْدَمَ وَاسْتَأْخَرَ وَاسْتَجَابَ، وَهُوَ انْقِبَاضُ النَّفْسِ مِنْ صُدُورِ فِعْلٍ أَوْ تَلَقِّيهِ لِاسْتِشْعَارِ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَوْ لَا يَحْسُنُ فِي مُتَعَارَفِ أَمْثَالِهِ، فَهُوَ هَيْئَةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِانْفِعَالِ يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْوَجْهِ وَفِي الْإِمْسَاكِ عَنْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ.

وَالِاسْتِحْيَاءُ هُنَا مَنْفِيٌّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّعَلُّلُ لِذَلِكَ بِأَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الِاتِّصَافِ تَعَلُّلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.

وَالضَّرْبُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبَ خَيْمَةً وَضَرَبَ بَيْتًا قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:

إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةً ... بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ

وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ

أَيْ جَعَلَ شَيْئًا مَثَلًا أَيْ شَبَهًا، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤] أَيْ لَا تَجْعَلُوا لَهُ مُمَاثِلًا مِنْ خَلْقِهِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ضَرَبَ مُشْتَقًّاُُ


(١) انْظُر: صفحة ٤ جُزْء ٣ من «محاضرات الْأَبْرَار» لِابْنِ عَرَبِيّ طبع حجر بمطبعة شعراوي سنة ١٢٨٢ هـ بِالْقَاهِرَةِ.