والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: صِفَةٌ جَامِعَةٌ لِلْعَمَلِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهَا.
وَحَقِيقَةُ الْحِفْظِ تَوَخِّي بَقَاءِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرَادُ كَوْنُهُ فِيهِ رَغْبَةُ صَاحِبِهِ فِي بَقَائِهِ وَرِعَايَتِهِ عَنْ أَنْ يَضِيعَ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا شَائِعًا عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ وَالْحَافِظُونَ لِمَا عَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ غَيْرِ الْمُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَأُطْلِقَتِ الْحُدُودُ مَجَازًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْأَوَامِرِ. فَالْحُدُودُ تَشْمَلُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩] . وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِهَا هَذِهِ الْأَوْصَافُ. وَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُوهِمَ تَرْكُ الْعَطْفِ أَنَّهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا صِفَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ مَعْدُودَتَانِ بَعْدَ صِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاوٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدُودٍ ثَامِنٍ، وَسَمَّوْهَا وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
ذَكَرَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] . وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي
اللَّبِيبِ» «وَذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ كَالْحَرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَدُّوا قَالُوا: سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، إِيذَانًا بِأَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ تَامٌّ وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عَدَدٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَاتٍ إِحْدَاهَا: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ- سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْف: ٢٢] . ثُمَّ قَالَ: الثَّانِيَةُ آيَةُ الزُّمَرِ [٧١] إِذْ قِيلَ: فُتِحَتْ فِي آيَةِ النَّارِ لِأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ سَبْعَة، وَفُتِحَتْ [الزمر: ٧٣] فِي آيَةِ الْجَنَّةِ إِذْ أَبْوَابُهَا ثَمَانِيَةٌ. ثُمَّ قَالَ: الثَّالِثَةُ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الثَّامِنُ. ثُمَّ قَالَ: وَالرَّابِعَةُ: وَأَبْكاراً فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ [٥] ذَكَرَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَتَبَجَّحَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذِكْرِهَا الثَّعْلَبِيُّ ... وَأَمَّا قَوْلُ الثَّعْلَبِيِّ: أَنَّ مِنْهَا الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧] فَسَهْوٌ بَيِّنٌ وَإِنَّمَا هَذِهِ وَاوُ الْعَطْفِ اه. وَأَطَالَ فِي خِلَالِ كَلَامِهِ بِرُدُودٍ وَنُقُوضٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكَفِيفِ الْمَالِقِيِّ (١) وَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا عَدُّوا: وَاحِدٌ، اثْنَانِ،
(١) قَالَ ابْن عَطِيَّة وَكَانَ مِمَّن استوطن غرناطة وأقرأ فِيهَا فِي مُدَّة ابْن حبوس (أَي ديس بن حبوس الَّذِي تملك غرناطة من سنة ٤٢٠ إِلَى أَن توفّي سنة ٤٦٥) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute