فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ عَادَةَ هَذِهِ الْمَجَامِعِ أَنْ يَغْشَاهَا الشَّبَابُ وَالْيَافِعُونَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالذُّرِّيَّةِ أَيِ الْأَبْنَاءِ، كَمَا يُقَالُ: الْغِلْمَانُ، فَيَكُونُونَ قَدْ آمَنُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ كَفَرُوا بِهِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدِ ابْتَدَأَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٤٣] فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ ابْتِدَاءً هُوَ دَعْوَةُ فِرْعَوْنَ وَتَخْلِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ من الْأسر.
و (الْمَلأ) تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأُضِيفَ الْمَلَأُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، أَيْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَلَى خَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَشْهَدَ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبُوا عَلَيْهِمْ وَيُؤْذُوهُمْ لِإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى لِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ جَمِيعَ قَبِيلَتِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْجَبَابِرَةِ فِي أَخْذِ الْقَبِيلَةِ بِفَعْلَةٍ مِنْ بعض رجالها.
و (الْفِتَن) إِدْخَالُ الرَّوْعِ وَالِاضْطِرَابِ عَلَى الْعَقْلِ بِسَبَبِ تَسْلِيطِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ النَّفْسُ تَحَمُّلَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١] . فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، أَيْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي خَوْفِهِمُ الشَّدِيدِ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ زَادَ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِالْخَوْفِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ ثَنَاءٍ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ إِذْ آمَنُوا فِي حَالِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْمَلِكِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ، أَيْ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ خَوْفٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ آثَارَهُ تَتَطَرَّقُ الْمَرْءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي خَلْوَتِهِ وَخُوَيِّصَّتِهِ لِشِدَّةِ مُلَابَسَةِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مَفَرًّا مِنْهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ اتِّسَاعِ مَقْدِرَةِ فِرْعَوْنَ بَيَانِ تَجَاوُزِهِ الْحَدَّ فِي الْجَوْرِ، وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَا يَزَعُهُ عَنْ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِأَضْدَادِهِ وَازِعٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute