عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فِي آلِ عمرَان [١٢١] . فَمَعْنَى تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما اجْعَلَا قَوْمَكُمَا مُتَبَوِّئِينَ بُيُوتًا.
وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْأَصْلِ هُوَ السَّاكِنُ بِالْمَبَاءَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، إِذْ كَانَا سَبَب تبوّؤ قَوْمِهِمَا لِلْبُيُوتِ.
وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: لِقَوْمِكُما إِذْ جَعَلَ التَّبَوُّؤَ لِأَجْلِ الْقَوْم.
وَمعنى تبوؤ الْبُيُوتِ لِقَوْمِهِمَا أَنْ يَأْمُرَا قَوْمَهُمَا بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَأْمُرَانِهِمْ بِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارٌ فِي مِصْرَ مِنْ قَبْلُ، إِذْ لَا يَكُونُونَ قَاطِنِينَ مِصْرَ بِدُونِ مَسَاكِنَ، وَقَدْ كَانُوا سَاكِنِينَ أَرْضَ (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ (مَنْفِيسَ) قَاعِدَةِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَئِذٍ فِي جَنُوبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْبُيُوتُ الْمَأْمُورُ بِتَبَوُّئِهَا غَيْرَ الْبُيُوتِ الَّتِي كَانُوا سَاكِنِيهَا.
وَاضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِحَالَةِ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبُيُوتِ بُيُوتُ الْعِبَادَةِ أَيْ مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وُقُوعُ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عَقِبَهُ. وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُفَارِقُونَ مِصْرَ قَرِيبًا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْبُيُوتُ بُيُوتُ السُّكْنَى وَأَمْسَكُوا عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُنَاسب للتبوؤ لِأَن التبوؤ السُّكْنَى، وَالْمُنَاسِبُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ الْبُيُوتِ، وَكَوْنِهَا بِمِصْرَ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ خِيَامٌ أَوْ أَخْصَاصٌ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِاتِّخَاذِهَا تَهْيِئَةً لِلِارْتِحَالِ وَهِيَ غَيْرُ دِيَارِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَادِيَةِ لِيَعْمَلُوا عِيدَ الْفِصْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا سَأَلَهُ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ مُوسَى كَرَّرَ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ فِرْعَوْنَ كُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ وَالْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ ذَلِكَ عِيدًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute