وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ هَذِهِ الْخِيَامَ أَوِ الْأَخْصَاصَ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا
تَجْعَلُونَهَا مَفْتُوحَةً إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقِبْلَةُ: اسْمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ قِبْلَةَ بِلَادِ مِصْرَ كَقِبْلَةِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهِيَ الْجَنُوبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْقِبْلَةِ فِي الْآيَةِ حِكَايَةً لِتَعْبِيرِ مُوسَى عَنْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ جَارِيًا عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى صَخْرَةِ الْقُدْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ عَبَّرَ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى الْجَنُوبِ فَحُكِيَتْ عِبَارَتُهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَنُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ كَلِمَةُ قِبْلَةٍ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْبُيُوتِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُهَا مِنْ أَبْوَابِهَا فِي غَالِبِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.
وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْبُيُوتَ بِأَنَّهَا بُيُوتُ السُّكْنَى فَسَّرُوا قِبْلَةً: إِمَّا بِمَعْنَى مُتَقَابِلَةً، وَإِمَّا بِمَعْنَى اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَحَلَّ صَلَاتِكُمْ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَسَّرُوا الْقِبْلَةَ بِأَنَّهَا قِبْلَةُ الصَّلَاةِ، أَيْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُلَائِمُ تَرْكِيبَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لِأَنَّ التَّرْكِيبَ اقْتَضَى أَنَّ الْمَجْعُولَ قِبْلَةً هُوَ الْبُيُوتُ أَنْفُسُهَا لَا أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ فِيهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِذَا افْتَقَدْنَا التَّأْوِيلَاتِ كُلَّهَا لَا نَجِدُهَا إِلَّا مُفَكَّكَةً مُتَعَسِّفَةً خَلَا التَّفْسِيرِ الَّذِي عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ مِنْ عَمَلِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَقَوْمِهِمَا إِذْ كُلُّ أَحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute