فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُفِيدُ الْمُسْتَثْنَى الِاتِّصَافَ بِنَقِيضِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ لَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ وَلَا مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ جُمْلَةُ أَبى وَاسْتَكْبَرَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ بَيَانًا لِلْإِجْمَالِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَنْهَضُ مِنْهَا حُجَّةٌ تَقْطَعُ الْجِدَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مَعْطُوف عَلَى الْجُمَلِ الْمُسْتَأْنَفَةِ، وَ (كَانَ) لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ اتَّصَفَ بِالْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَضَى قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَفَ بِهِ قَبْلَ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَقَدْ تَحَيَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ حَمْلِهِمْ فِعْلَ (كَانَ) عَلَى الدِّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكُفْرِ فِيمَا مَضَى عَنْ وَقْتِ الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فَرِيقٌ يُوصَفُ بِالْكَافِرِينَ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَتَمَحَّلُوا بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُظْهِرًا الطَّاعَةَ مُبْطِنًا الْكُفْرَ نِفَاقًا، وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلُوا هَذَا الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] وَكُلُّ ذَلِكَ تَمَحُّلٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ يُفِيدُ مُضِيَّ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً الَّذِينَ جَعَلُوا كَانَ بِمَعْنَى صَارَ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ كَانَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: ٤٣] وَقَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة:
٥، ٦] وَقَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
أَيْ صَارَ كَافِرًا بِعَدَمِ السُّجُودِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ نَشَأَ عَنِ اسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى حَقِّ الْحِكْمَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِانْقِلَابَ الَّذِي عَرَضَ لِإِبْلِيسَ فِي جِبِلَّتِهِ كَانَ انْقِلَابَ اسْتِخْفَافٍ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ كَافِرًا صَرَاحًا.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ فِي مَعْنَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَكَفَرَ كَمَا قَالَ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لِدَلَالَةِ (كَانَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute