للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رُسُوخِ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي اسْمِهَا، وَالْمَعْنَى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ كُفْرًا عَمِيقًا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٣] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النَّمْل: ٤١] دُونَ أَن يَقُول أم لَا تَهْتَدِيَ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ آيَةَ تَنْكِيرِ عَرْشِهَا وَلَمْ تَهْتَدِ كَانَتْ رَاسِخَةً فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِخَبَرِ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَكَانَ كَافِرًا فَلِأَنَّ إِثْبَاتَ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاحِدًا من جمَاعَة تثبت لَهُمْ ذَلِكَ الْوَصْفُ أَدَلُّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُ مِمَّا لَوْ أَثْبَتَ لَهُ الْوَصْفَ وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَزْدَادُ تَمَسُّكًا بِفِعْلِهِ إِذَا كَانَ قَدْ شَارَكَهُ فِيهِ جَمَاعَةٌ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ تَبْعُدُ نَفْسُهُ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي سَدَادِ عَمَلِهَا وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: ٢٧] وَقَوْلُهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ وَهُوَ دَلِيلٌ كَنَائِيٌّ وَاسْتِعْمَالٌ بَلَاغِيٌّ جَرَى عَلَيْهِ نَظْمُ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ بَلْ كَانَ إِبْلِيسُ وَحِيدًا فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا منزع انتزعه مِنْ تَتَبُّعِ مَوَارِدِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي هَاتَيْنِ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ خُصُوصِيَّةِ زِيَادَةِ (كَانَ) وَخُصُوصِيَّةِ إِثْبَاتِ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ وَسَيَجِيءُ ذَلِك قَرِيبا عَن قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: ٤٣] . وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ امْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ قَوْلُهُ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ جَارِيًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْإِخْبَارِ الْكِنَائِيِّ.

وَفِي هَذَا الْعُدُولِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مُرَاعَاةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ حُرُوفُ الْفَاصِلَةِ أَيْضًا، وَقَدْ رُتِّبَتِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَفْهُومَاتِهَا فِي الْوُجُودِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ مُطَابِقًا لِتَرْتِيبِ مَدْلُولَاتِ جُمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: ٧٧] وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِي «أُصُولِ الْإِنْشَاء الخطابة» .