وَكَذَلِكَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ إِذْ لَمْ يَكُنِ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ إِلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. فَكُلٌّ مِنَ التَّوَلِّي وَالتَّحَسُّرِ وَابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ أَحْوَالِهِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَزْمَانِ.
وَابْيِضَاضُ الْعَيْنَيْنِ: ضَعْفُ الْبَصَرِ. وَظَاهِرَةٌ أَنَّهُ تَبَدَّلَ لَوْنُ سَوَادِهِمَا مِنَ الْهُزَالِ.
وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ دُونَ عَمِيَتْ عَيْنَاهُ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْحُزْنِ سَبَبِيَّةٌ. وَالْحُزْنُ سَبَبُ الْبُكَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ ابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ. وَعِنْدِي أَنَّ ابْيِضَاضَ الْعَيْنَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ النَّ ... اسِ فِيهَا تَغَيُّضٌ وَإِبَاءُ
وَأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنَّ تَوَالِيَ إِحْسَاسِ الْحُزْنِ عَلَى الدِّمَاغِ قَدْ أَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ عَمَلِ عَصَبِ الْإِبْصَارِ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الْحُزْنِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صدوره من نبيء، أَوْ أَنَّ التَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بَلْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِمْ إِظْهَارُ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ. وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ بُكَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَحَكَتْ تَمْزِيقَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ثِيَابَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ. وَإِنَّمَا التَّصَبُّرُ فِي الْمُصِيبَةِ كَمَالٌ بَلَغَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ.
وَالْكَظِيمُ: مُبَالَغَةٌ لِلْكَاظِمِ. وَالْكَظْمُ: الْإِمْسَاكُ النَّفْسَانِيُّ، أَيْ كَاظِمٌ لِلْحُزْنِ لَا يُظْهِرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَبْكِي فِي خَلْوَتِهِ، أَوْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْزُونٍ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ.
وَجُمْلَةُ قالُوا تَاللَّهِ مُحَاوَرَةُ بنيه إِيَّاه عِنْد مَا سَمِعُوا قَوْلَهُ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَقَدْ قَالَهَا فِي خَلْوَتِهِ فَسَمِعُوهَا.
وَالتَّاءُ حَرْفُ قَسَمٍ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ وَاوِ الْقَسَمِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: «التَّاءُ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ» . وَسَلَّمَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute