وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إِشَارَةٌ إِلَى سُجُودِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ لَهُ هُوَ مِصْدَاقَ رُؤْيَاهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سُجَّدًا لَهُ.
وَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ [سُورَة يُوسُف: ٣٦] .
وَمَعْنَى قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْأَخْبَارِ الرَّمْزِيَّةِ الَّتِي يُكَاشِفُ بِهَا الْعَقْلُ الْحَوَادِثَ الْمُغَيَّبَةَ عَنِ الْحِسِّ، أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ الْغِذَائِيَّةِ أَوِ الِانْحِرَافَاتِ الدِّمَاغِيَّةِ.
وَمَعْنَى أَحْسَنَ بِي أَحْسَنَ إِلَيَّ. يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ بِتَضْمِينِ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ. وَبَاءُ بِي لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ جَعَلَ إِحْسَانَهُ مُلَابِسًا لِي، وَخَصَّ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِ دُونَ مُطْلَقِ الْحُضُورِ لِلِامْتِيَارِ أَوِ الزِّيَادَةِ إِحْسَانَيْنِ هُمَا يَوْمَ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَمَجِيءِ عَشِيرَتِهِ مِنَ الْبَادِيَةِ.
فَإِنَّ إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِفِعْلِ أَحْسَنَ فَهِيَ بِإِضَافَتِهَا إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ إِحْسَانٍ غَيْرِ مَعْدُودٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ زَمَنَ ثُبُوتِ بَرَاءَتِهِ مِنَ الْإِثْمِ الَّذِي رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَتِلْكَ مِنَّةٌ، وَزَمَنَ خَلَاصِهِ مِنَ السَّجْنِ فَإِنَّ السَّجْنَ عَذَابُ النَّفْسِ بِالِانْفِصَالِ عَنِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَحِبَّةِ، وَبِخُلْطَةِ مَنْ لَا يُشَاكِلُونَهُ، وَبِشَغْلِهِ عَنْ خَلْوَةِ نَفْسِهِ بِتَلَقِّي الْآدَابِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا زَمَنَ إِقْبَالِ الْمَلِكِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَجِيءُ أَهْلِهِ فَزَوَالُ أَلَمٍ نَفْسَانِيٍّ بِوَحْشَتِهِ فِي الِانْفِرَادِ عَنْ قَرَابَتِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَأَفْصَحَ بِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَمَجِيءِ أَهْلِهِ مِنَ الْبَدْوِ إِلَى حَيْثُ هُوَ مَكِينٌ قَوِيٌّ.
وَأَشَارَ إِلَى مَصَائِبِهِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِبْقَاءِ فِي الْجُبِّ، وَمُشَاهَدَةِ مَكْرِ إِخْوَتِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، فَكَلِمَةُ بَعْدِ اقْتَضَتْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ انْقَضَى أَثَرُهُ. وَقَدْ أَلَمَّ بِهِ إِجْمَالًا اقْتِصَارًا عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِعْرَاضًا عَنِ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الْمُكَدِّرَةِ لِلصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ فَمَرَّ بِهَا مَرَّ الْكِرَامِ وَبَاعَدَهَا عَنْهُمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِذْ نَاطَهَا بِنَزْغِ الشَّيْطَانِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute