للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْإِتْيَانُ (١) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ إِيذَانٌ بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِتَابٍ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْهُدَى الْأَوَّلِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُحَاوَلَةَ هَدْيِكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا جَدْوَى لَهَا كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُ فَرَضِيَ عَنْهُ: إِنْ أَوْصَيْتُكَ يَوْمًا آخَرَ بِشَيْءٍ فَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ فَعْلَتِكَ، يُعَرِّضُ لَهُ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ إِذْ لَعَلَّهُ قَلِيلُ الْجَدْوَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ فَاتَ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» حَجَبَهُ عَنْهُ تَوْجِيهُ تَكَلُّفِهِ لِإِرْغَامِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِهُدَى الْعَقْلِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْن هُدَى اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ التَّكَلُّفُ كَثِيرٌ فِي «كِتَابِهِ» وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِرُسُوخِ

قَدَمِهِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ تَقْرِيرُهُ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُغْنِي فِيهِ الْعَقْلُ عَنِ الرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ بَلْ مُعْظَمُهُ هُدَى التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا قِبَلَ لِلْعَقْلِ بِإِدْرَاكِهِ، وَهُوَ عَلَى أُصُولِهِمْ أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ إِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الشَّكِّ هُنَا بِحَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ أَسْعَدَ بِمَذْهَبِنَا أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةَ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْهُدَى كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَارِدَةً لِأَجْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ هُوَ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَلَزِمَ ذُرِّيَّتَهُ أَنْ يَتْبَعُوا كُلَّ هُدًى يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هُدًى يَأْتِي مِنَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ


(١) اعْلَم أَن أصل تَكْرِير الْكَلِمَة أَو الْجُمْلَة فِي الْكَلَام أَن يكون مَكْرُوها لما يورثه التكرير من سماجة السَّامع، لِأَن الْمَقْصُود من الْكَلَام تجدّد الْمعَانِي غير أَن تِلْكَ الْكَرَاهَة مُتَفَاوِتَة، فتكرير الْمُفْردَات لَا مندوحة عَنهُ، فَكَانَ اخْتِلَاف الْإِخْبَار عَنْهَا والأوصاف دافعا لكَرَاهَة تكريرها، وَلذَلِك لَا يعد تكريرها عَيْبا إِلَّا إِذا كثر فِي كَلَام غير طَوِيل نَحْو:
لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء ... نغّص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا
وَلذَلِك عدت كَثْرَة التكرير مُنَافِيَة للفصاحة. وَأما تَكْرِير الْجمل فِي الْكَلَام الْقَرِيب فأصله السماجة إِلَّا إِذا حصل من التكرير نُكْتَة بلاغية فَحِينَئِذٍ يغالب النشاط الْحَاصِل من التكرير أَو التأثر والانزعاج تِلْكَ السماجة فيدحضها. وَذَلِكَ كتكرير التهويل فِي «قربا مربط النعامة مني» وتكرير التطريب فِي إِعَادَة اسْم المحبوب فيقصد الْمُتَكَلّم تَجْدِيد ذَلِك التأثر فِي السَّامع حبا فِيهِ أَو نكاية وَذَلِكَ تَابع لحالة السامعين فِي ذَلِك الْمقَام بِحَيْثُ لَا يسأمون من التكرير لأَنهم يتطلبونه ويحمدونه لما يَتَجَدَّد لَهُم عِنْده من الانفعال الْحسن.