للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَدِينَةُ فَإِنَّهُمَا طَرَفَا بِلَادِ الْعَرَبِ، فَمَكَّةُ طَرَفُهَا مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ، وَالْمَدِينَةُ طَرَفُ الْبِلَادِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، وَلَمْ يَزَلْ عَدَدُ الْكُفَّارِ فِي الْبَلَدَيْنِ فِي انْتِقَاصٍ بِإِسْلَامِ كُفَّارِهَا إِلَى أَنْ تمحضت الْمَدِينَة لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ تَمَحَّضَتْ مَكَّةُ لَهُ بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ.

وَأَيًّا مَا كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَسَبَبُ نُزُولِهَا وَمَكَانُهُ فَهِيَ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى زَوَالٍ وَأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ زَائِلُونَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٥١] ، أَيْ مَا هُمُ الْغَالِبُونَ.

وَهَذَا إِمْهَالٌ لَهُمْ وَإِعْذَارٌ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ.

وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [سُورَة الرَّعْد: ٤١] عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا مُؤَكِّدَةً لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِجُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ثُمَّ بِجُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ ثُمَّ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَحْكُمُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ لَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ وَلَوْ تَأَخَّرَ.

وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ الْمُقَيِّدَةُ لِلْفِعْلِ الْمُرَادِ إِذْ هِيَ مَصَبُّ الْكَلَامِ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ إِذْ لَا يَكَادُ يَخْفَى، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَأَفَادَ نَفْيُ جِنْسِ الْمُعَقِّبِ انْتِفَاءَ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَقِّبًا مِنْ شَرِيكٍ أَوْ شَفِيعٍ أَوْ دَاعٍ أَوْ رَاغِبٍ أَوْ مُسْتَعْصِمٍ أَوْ مُفْتَدٍ.

وَالْمُعَقِّبُ: الَّذِي يُعْقِبُ عَمَلًا فَيُبْطِلُهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ غَلَبَتْ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ [سُورَة الرَّعْد: ١١] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ يَجِيءُ عَقِبَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ الْعَمَلَ.

وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الِاسْمُ الْعَظِيمُ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ