للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ خُفْيَةً وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ يَسْتَخْفِي بِصَلَاتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَعِيبُونَ صَلَاتَهُمْ، فَحَدَثَ تَضَارُبٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَدْمَى فِيهِ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَبَعْدَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ دَارَ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا فَكَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِهَا وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ تَزِيدُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الْآيَةَ. وَبِنُزُولِهَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِفَاءَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ وَأَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ جَهْرًا.

وَالصَّدْعُ: الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ. وَأَصْلُهُ الِانْشِقَاقُ. وَمِنْهُ انْصِدَاعُ الْإِنَاءِ، أَيِ انْشِقَاقُهُ.

فَاسْتُعْمِلَ الصَّدْعُ فِي لَازِمِ الِانْشِقَاقِ وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ الْمَحْجُوبِ وَرَاءَ الشَّيْءِ الْمُنْصَدِعِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْجَهْرُ والإعلان.

وَمَا صدق «مَا تُؤْمَرُ» هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَقَصْدُ شُمُولِ الْأَمْرِ كُلُّ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَبْلِيغِهِ هُوَ نُكْتَةُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ تُؤْمَرُ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِنَحْوِ بِتَبْلِيغِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِهِ أَوْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.

وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ لَا عَنْ ذَوَاتِهِمْ. وَذَلِكَ إِبَايَتُهُمُ الْجَهْرَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَعَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَعَنْ تَصَدِّيهِمْ إِلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِعْرَاضَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.