وَجُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْلَانِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّ اخْتِفَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ أَهَمُّهَا تَعَدُّدُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِحَيْثُ يَغْتَاظُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ وَفْرَةِ الدَّاخِلِينَ فِي الدِّينِ مَعَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مَخْفِيَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِإِعْلَانِ دَعْوَتِهِ لِحِكْمَةٍ أَعْلَى تَهَيَّأَ اعْتِبَارُهَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَهْزِئِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَفَاهُ اسْتِهْزَاءُهُمْ وَهُوَ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَكِفَايَتُهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْأَذَى مَفْهُومٌ بِطْرِيقِ الْأَحْرَى.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لَا لِلشَّكِّ فِي تَحَقُّقِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كَفَيْنَاك كل مستهزء. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُصَارَى مَا يُؤْذُونَهُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [سُورَة آل عمرَان: ١١١] ، فَقَدْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُؤْذُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ تَوَلِّي الْكَافِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِيِّ، فَالْكَافِي هُوَ مُتَوَلِّي عَمَلٍ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي رَاحَةَ الْمُكْفَى. يُقَالُ: كَفَيْتُ مُهِمَّكَ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا هُوَ الْمُهِمُّ الْمَكْفِيُ مِنْهُ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فَإِذَا كَانَ اسْمَ ذَاتٍ فَالْمُرَادُ أَحْوَالُهُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ بَأْسَهُ، وَإِذَا قُلْتَ:
كَفَيْتُكَ غَرِيمَكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ مُطَالَبَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَفَيْنَاكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَإِرَاحَتُكَ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِصُنُوفٍ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute