وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٥] . وَلَيْسَتْ مِثْلَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [سُورَة النَّحْل: ٨١] .
وَ «مَا يَعْرِشُونَ» أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عروشا، جمع عرش، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْحَقْلِ يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ فِيهِ صَاحِبُهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ.
يُقَالُ: عَرَّشَ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤١] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٧] .
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- بِكَسْرِ رَاءِ- يَعْرِشُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّهَا-.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ إِلْهَامَ النَّحْلِ لِلْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَكَوُّنُ الْعَسَلِ فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ اتِّخَاذِهَا الْبُيُوتَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَسَلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَبْنِي الْبُيُوتَ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً لِلْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ مِنْهُ قُوتَهَا الَّذِي بِهِ بَقَاؤُهَا. وَسُمِّيَ امْتِصَاصُهَا أَكْلًا لِأَنَّهَا تَقْتَاتَهُ فَلَيْسَ هُوَ بِشُرْبٍ.
والثَّمَراتِ: جَمْعُ ثَمَرَةٍ. وَأَصْلُ الثَّمَرَةِ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ غَلَّةٍ، مِثْلُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالنَّحْلُ يَمْتَصُّ مِنَ الْأَزْهَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ ثَمَرَاتٍ، فَأُطْلِقَ الثَّمَراتِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَزْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَاسْلُكِي بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طَبْعِ النَّحْلِ عِنْدَ الرَّعْيِ التَّنَقُّلَ مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ وَمِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ زَهْرَةً أَبْعَدَتْ الِانْتِجَاعَ ثُمَّ إِذَا شَبِعَتْ قَصَدَتِ الْمُبَادَرَةَ بِالطَّيَرَانِ عَقِبَ الشِّبَعِ لِتَرْجِعَ إِلَى بُيُوتِهَا فَتَقْذِفُ مِنْ بُطُونِهَا الْعَسَلَ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهَا، فَذَلِكَ السُّلُوكُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَبِيعَةِ أَكْلِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute