للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالتَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْإِسْرَافِ، فَإِنْفَاقُهُ فِي الْفَسَادِ تَبْذِيرٌ، وَلَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ قَلِيلًا، وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحِ إِذَا بَلَغَ حَدَّ السَّرَفِ تَبْذِيرٌ، وَإِنْفَاقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ رَآهُ يُنْفَقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، فَأَجَابَهُ الْمُنْفِقُ: لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، فَكَانَ فِيهِ مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ مُحْسِنُ الْعَكْسِ.

وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ جُعِلَ عِوَضًا لِاقْتِنَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَحَاجِيَّاتٍ وَتَحْسِينَاتٍ. وَكَانَ نِظَامُ الْقَصْدِ فِي إِنْفَاقِهِ ضَامِنَ كِفَايَتِهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ إِذَا أُنْفِقَ فِي وَجْهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ أَمِنَ صَاحِبُهُ مِنَ إِلَخْصَاصَةِ فِيمَا هُوَ إِلَيْهِ أَشد احتياجا، فَتَجَاوز هَذَا الْحَدِّ فِيهِ يُسَمَّى تَبْذِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ ذَاتِ الْكَفَافِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْوَفْرِ وَالثَّرْوَةِ فَلِأَنَّ ذَلِك الوفر ءات مِنْ أَبْوَابٍ اتَّسَعَتْ لِأَحَدٍ فَضَاقَتْ عَلَى آخَرَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مَحْدُودَةٌ، فَذَلِكَ الْوَفْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْمُعْوِزِينَ وَأَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ يَزْدَادُ عَدَدُهُمْ بِمِقْدَارِ وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْوَفْرِ وَالْجِدَةِ، فَهُوَ مَرْصُودٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعَائِلَةِ وَالْقَبِيلَةِ وَبِالتَّالِي مَصَالِحُ الْأُمَّةِ.

فَأَحْسَنُ مَا يُبْذَلُ فِيهِ وَفْرُ الْمَالِ هُوَ اكْتِسَابُ الزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٤١] ، وَاكْتِسَابُ الْمَحْمَدَةِ بَيْنَ قَوْمِهِ. وَقَدِيمًا قَالَ الْمَثَلُ الْعَرَبِيُّ «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الْمُرُوءَةِ الْجِدَةُ» . وَقَالَ ... «اللَّهُمَّ هَبْ لِي حَمْدًا، وَهَبْ لِي مَجْدًا، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إِلَّا بِفِعَالٍ، وَلَا فِعَالَ إِلَّا بِمَالٍ» .

وَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ الْأُمَّةِ عُدَّةً لَهَا وَقُوَّةً لِابْتِنَاءِ أَسَاسِ مَجْدِهَا وَالْحِفَاظِ

عَلَى مَكَانَتِهَا حَتَّى تَكُونَ مَرْهُوبَةَ الْجَانِبِ مَرْمُوقَةً بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَنْ قَدْ يَسْتَغِلُّ حَاجَتَهَا فَيَبْتَزُّ مَنَافِعَهَا وَيُدْخِلَهَا تَحْتَ نِيرِ سُلْطَانِهِ.