للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ إِمَّا إِنْفَاقٌ فِي الْفَسَادِ وَإِمَّا إِسْرَافٌ يَسْتَنْزِفُ الْمَالَ فِي السَّفَاسِفِ وَاللَّذَّاتِ فَيُعَطِّلُ الْإِنْفَاقَ فِي الْخَيْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُرْضِي الشَّيْطَانَ،

فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمُتَّصِفُونَ بِالتَّبْذِيرِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَإِخْوَانِهِ.

وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ التَّبْذِيرَ إِذَا فَعَلَهُ الْمَرْءُ اعْتَادَهُ فَأَدْمَنَ عَلَيْهِ فَصَارَ لَهُ خُلُقًا لَا يُفَارِقُهُ شَأْنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ أَنْ يَسْهُلَ تَعَلُّقُهَا بِالنُّفُوسِ كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْمَرْءَ لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

، فَإِذَا بَذَرَ الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ، أَيِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُبَذِّرُونَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فَتَصِيرُ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ أَنَّ الْمَرْءَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ من المبذرين عِنْد مَا يُبَذِّرُ تَبْذِيرَةً أَوْ تَبْذِيرَتَيْنِ.

ثُمَّ أَكَّدَ التَّحْذِيرَ بِجُمْلَةِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَهَذَا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ التَّبْذِيرُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْكُفْرِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ التَّخَلُّقِ بِالطَّبَائِعِ الشيطانية، فَيذْهب يتدهور فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] . وَيَجُوزُ حَمْلُ الْكُفْرِ هُنَا عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ دَرَجَاتٍ إِلَى حَالِ التَّخَلُّقِ بِالتَّبْذِيرِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ بِالْمَالِ. فَالتَّخَلُّقُ بِهِ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ لِكُفْرَانِ النِّعَمِ.

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي الْمَنْطِقِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، إِذْ كَانَ الْمُبَذِّرُ مُؤَاخِيًا لِلشَّيْطَانِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُورًا، فَكَانَ المبذّر كفورا بالمئال أَوْ بِالدَّرَجَةِ الْقَرِيبَةِ.