لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً أَوْ نِصْفًا فَوَلَدَتْ لَهُ أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا «سَلُونِي» أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ: أَبُوكَ فُلَانٌ
. وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أثبت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُسَامَةَ بن زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ.
وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقْفُ: لَا تَقُلْ: رَأَيْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ وَشَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بن الْحَنَفِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ.
وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ عَقْلٍ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ
اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْوُقُوعِ وَالْإِيقَاعِ فِي الْأَضْرَارِ وَالْمَهَالِكِ مِنْ جَرَّاءِ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ.
وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيم (كل) الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنهُ مسؤولا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ (كَانَ) لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute