النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «اعْلُ هُبَلُ» . وَمِنْهُ وَعْدُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ عَذَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ لِإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَوَعْدِ الْعُصَاةِ بِحُصُولِ اللَّذَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي مِثْلَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمُقَامَرَةِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَعِدْهُمْ لِلتَّعْمِيمِ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ. وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَعِدَهُمْ بِمَا يَرْغَبُونَ لِأَنَّ الْعِدَةَ هِيَ الْتِزَامُ إِعْطَاءِ الْمَرْغُوبِ. وَسَمَّاهُ وَعْدًا لِأَنَّهُ يُوهِمُهُمْ حُصُولَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ كَشَأْنِ الْكَذَّابِ أَنْ يَحْتَزِرَ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْعَاجِلِ لَقُرْبِ افْتِضَاحِهِ فَيَجْعَلُ مَوَاعِيدَهُ كُلَّهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ بِجُمْلَةِ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
وَالْغُرُورُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ فِي صُورَةِ الْمَحْبُوبِ الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] ، وَقَوْلِهِ:
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [١١٢] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا سَوَّلَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي حُصُولِ الْمَرْغُوبِ إِمَّا بَاطِلٌ لَا يَقَعُ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَكَوْنِهِ غُرُورًا لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِمَا يَقَعُ فِي صُورَةِ الْوَاقِعِ فَهُوَ تَلْبِيسٌ وَإِمَّا حَاصِلٌ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ
بِالْعَاقِبَةِ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنْ قَضَاءِ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَمَحَبَّةِ الْعَاجِلِ دُونَ تَفْكِيرٍ فِي الْآجِلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَارَنَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ أَو كَونه آئلا إِلَيْهِ بِالْإِضْرَارِ. وَقَدْ بَسَطَ هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنْ كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» .
وَإِظْهَارُ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ دون أَن يُؤْتى بِضَمِيرِهِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَوْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى لَكَانَ فِي النَّثْرِ شِبْهُ عَيْبِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يَحْسُنُ اشْتِمَالُهَا عَلَى ضَمِيرٍ لَيْسَ من أَجْزَائِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute