وَ (أَمْ) هَذِهِ هِيَ (أَمِ) الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى (بَلْ) ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهَا، يُقَدَّرُ بَعْدَهَا حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا بَعْدَهَا كَقَوْلِ أُفْنُونٍ التَّغْلِبِيِّ:
أَنَّى جَزَوْا عَامِرًا سوءا بضعته ... أَمْ كَيْفَ يَجْزُونَنِي السُّوأَى عَنِ الْحَسَنِ
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) تَعْجِيبِيٌّ مِثْلُ الَّذِي فِي الْبَيْتِ.
وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: أَحَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَبًا مِنْ بَيْنِ آيَاتِنَا، أَيْ أَعْجَبَ مِنْ بَقِيَّةِ آيَاتِنَا، فَإِنَّ إِمَاتَةَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ عَجَبِ إِنَامَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. لِأَنَّ فِي إِنَامَتِهِمْ إِبْقَاءٌ لِلْحَيَاةِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَلَيْسَ فِي إِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ إِبْقَاءٌ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِغَفْلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بَيَانَ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ لِاسْتِعْلَامِ مَا فِيهَا مِنَ الْعَجَبِ، بِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ عَجِيبٍ وَكَفَرُوا بِمَا هُوَ أَعْجَبُ، وَهُوَ انْقِرَاضُ الْعَالَمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَيَقُولُونَ: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] . أَيْ إِنِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا لَا حَيَاةُ الْآخِرَةُ وَإِنَّ الدَّهْرَ يُهْلِكُنَا وَهُوَ بَاقٍ.
وَفِيهِ لَفْتٌ لِعُقُولِ السَّائِلِينَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعَجَائِبِ الْقَصَصِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمُ الِاتِّعَاظُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْأَسْبَابِ وَآثَارِهَا. وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ ذِكْرُ أَحْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الْكَهْف: ١٠] فَأَعْلَمَ النَّاسَ بِثَبَاتِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِمْ فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً [الْكَهْف: ١٣] . الْآيَاتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشِّرْكَ وَسَفَّهُوا أَهْلَهُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ حَقَّ السَّامِعِينَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهُدَاهُمْ.
وَالْخطاب للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم. وَالْمُرَادُ: قَوْمُهُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الْقِصَّةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَغْرَوْهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَتَطَلُّبِ بَيَانِهَا. وَيُظْهِرُ أَنَّ الَّذِينَ لَقَّنُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ
هُمْ بَعْضُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَهُمْ صِلَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute