وَأَوَى أَوْيًا إِلَى الْمَكَانِ: جَعَلَهُ مَسْكَنًا لَهُ، فَالْمَكَانُ: الْمَأْوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨] .
وَالْفِتْيَةُ: جمع قلَّة لفتى، وَهُوَ الشَّابُّ الْمُكْتَمِلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِتْيَةِ: أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِذْ أَوَوْا، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْفِتْيَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَتْرَابًا مُتَقَارِبِي السِّنِّ. وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهِ مِنِ اكْتِمَالِ خَلْقِ الرُّجُولِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفُتُوَّةِ الْجَامِعِ لِمَعْنَى سَدَادِ الرَّأْيِ، وَثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ فَلَمْ يَقِلْ: إِذْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ.
وَدَلَّتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَقالُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَادَرُوا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ.
وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُنَاسِبُ عِنَايَتَهُ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَزِيَادَةُ مِنْ لَدُنْكَ لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْإِيتَاءِ تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي (مِنْ) مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَفِي (لَدُنْ) مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالُوا: آتِنَا رَحْمَةً، لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا رَحْمَةً خَاصَّةً وَافِرَةً فِي حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّهَا، وَقَصَدُوا الْأَمْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلِئَلَّا يُلَاقُوا فِي اغْتِرَابِهِمْ مَشَقَّةً وَأَلَمًا، وَأَنْ لَا يُهِينَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ فَيَصِيرُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُقَدِّرَ لَهُمْ أَحْوَالًا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا حُصُولَ مَا خَوَّلَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هِيَ إِعْدَادُ أَسْبَابِ حُصُولِ الشَّيْءِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِنا ابْتِدَائِيَّةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute