بِالصَّبْرِ- وَالصَّبْرُ هُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ- وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى فَيَكُونُ مَحَلُّ النِّعْمَةِ هُوَ الصَّفْحَ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَالتَّنَازُعَ مَعَهُمْ إِلَى الْإِجَابَةِ بِقَوْلِهِ: اهْبِطُوا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ اهْبِطُوا إِنْعَامٌ عَلَيْهِمْ وَلَا فِي سُؤَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَصَوْا لِأَنَّ طَلَبَ الِانْتِقَالِ مِنْ نِعْمَةٍ لِغَيْرِهَا لِغَرَضٍ مَعْرُوفٍ لَا يُعَدُّ مَعْصِيَةً كَمَا بَيَّنَهُ الْفَخْرُ.
فَالَّذِي عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الْمُعْقَبَةِ بِنِعَمٍ أُخْرَى إِلَى بَيَان سوى اخْتِيَارِهِمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَالِاخْتِيَارُ دَلِيلُ عَقْلِ اللَّبِيبِ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَارُ مُبَاحًا، مَعَ مَا فِي صِيغَةِ طَلَبِهِمْ مِنَ الْجَفَاءِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ وَمَعَ الْمُنْعِمِ إِذْ قَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ فَعَبَّرُوا عَنْ تَنَاوُلِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِالصَّبْرِ الْمُسْتَلْزِمِ الْكَرَاهِيَةَ وَأَتَوْا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (لَنْ) فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مِنَ الْآنَ فَإِنَّ (لَنْ) تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِأَزْمِنَةِ فِعْلِ نَصْبِرَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَهُوَ مَعْنَى التَّأبِيدِ وَفِي ذَلِكَ إِلْجَاءٌ لِمُوسَى أَنْ يُبَادِرَ بِالسُّؤَالِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَيْأَسُوهُ مِنْ قَبُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بَعْدَ ذَلِكَ الْحِينِ فَكَانَ جَوَابُ اللَّهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الطَّلِبَةِ أَنْ قَطَعَ عِنَايَتَهُ بِهِمْ وَأَهْمَلَهُمْ وَوَكَلَهُمْ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يُرِهِمْ مَا عَوَّدَهُمْ مِنْ إِنْزَالِ الطَّعَامِ وَتَفْجِيرِ الْعُيُونِ بَعْدَ فَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ بَلْ قَالَ لَهُمُ:
اهْبِطُوا مِصْراً فَأَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَفَى بِذَلِكَ تَأْدِيبًا وَتَوْبِيخًا.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ جَهْلِ الْمُرِيدِ أَنْ يُسِيءَ الْأَدَبَ فَتُؤَخَّرَ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَوْ كَانَ فِي هَذَا إِسَاءَةٌ لَعُوقِبْتُ فَقَدْ يُقْطَعُ الْمَدَدُ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَنْعُ الْمَزِيدِ، وَقَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْبُعْدِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ يُخَلِّيَكَ وَمَا تُرِيدُ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ إِلَى بَيَانِ تَلَقِّيهِمْ لَهَا بِالِاسْتِخْفَافِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ انْقِلَابِ أَحْوَالِهِمْ وَأَسْبَابِ خِذْلَانِهِمْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي كَوْنِ السُّؤَالِ مَعْصِيَةً فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ وَحِرْمَانَ الْفَضَائِلِ لَيْسَتْ مِنْ آثَارِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَلَكِنَّهَا مِنْ أَشْبَاهِ خِطَابِ الْوَضْعِ تَرْجِعُ إِلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَذَلِكَ مِنْ نَوَامِيسِ
نِظَامِ الْعَالَمِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ وَبِهَذَا زَالَتِ الْحَيْرَةُ وَانْدَفَعَ كُلُّ إِشْكَالٍ وَانْتَظَمَ سِلْكُ الْكَلَامِ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى قِصَّةٍ ذَكَرَتْهَا التَّوْرَاةُ مُجْمَلَةً مُنْتَثِرَةً وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَحَلُوا مِنْ بَرِّيَّةِ سِينَا مِنْ «حُورِيبَ» وَنَزَلُوا فِي بَرِّيَّةِ «فَارَانَ» فِي آخِرِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْخُرُوجِ سَائِرِينَ إِلَى جِهَاتِ «حَبْرُونَ» فَقَالُوا: تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute