للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَجَّانًا (أَيْ يَصْطَادُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ) وَالْقِثَّاءَ وَالْبِطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ وَقَدْ يَبِسَتْ نفوسنا فَلَا ترى إِلَّا هَذَا الْمَنَّ فَبَكَوْا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَهُ مُوسَى الْعَفو فعنا عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوَى فَادَّخَرُوا مِنْهَا طَعَامَ شَهْرٍ كَامِلٍ.

وَالتَّعْبِيرُ بِلَنِ الْمُفِيدَةِ لِتَأْبِيدِ النَّفْيِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَدَاءِ مَعْنَى كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ هُنَا فِي شِدَّةِ الضَّجَرِ وَبُلُوغِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْهُمْ حَدَّهَا الَّذِي لَا طَاقَةَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ التَّأْبِيدَ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ النَّفْيِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَبَدِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فَلَنْ فِي نَفْيِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ لَا التَّبْرِئَةِ (١) فِي نَفْيِ النَّكِرَاتِ.

وَوَصَفُوا الطَّعَامَ بِوَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ شَيْئَيْنِ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ كُلَّ يَوْمٍ.

وَجُمْلَةُ يُخْرِجْ لَنا إِلَى آخِرِهَا هِيَ مَضْمُونُ مَا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فَهِيَ فِي مَعْنَى مَقُولِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ قُلْ لِرَبِّكَ يُخْرِجْ لَنَا وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ أَنْ يُخْرِجَ لَنَا فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مَجْزُومٍ فِي صُورَةِ جَوَابِ طَلَبِهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُ إِنْ دَعَا رَبَّهُ أَجَابَهُ حَتَّى كَأَنَّ إِخْرَاجَ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ دُعَاءِ مُوسَى رَبَّهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ تُكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣١] .

وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: ٥٣] وَهُوَ كَثِيرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَرط وَجَزَاء كَأَن قِيلَ إِنْ تَدْعُ رَبَّكَ بِأَنْ يُخْرِجَ لَنَا يُخْرِجْ لَنَا، وَهَذَا بِتَنْزِيلِ سَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَجَزَمَ الْفِعْلَ الْمَطْلُوبَ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِطَلَبِهِ لِلَّهِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِثِقَتِهِمْ بِإِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ مُوسَى، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى إِيجَادِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ كَأَنَّهُ أَمْرٌ فِي مُكْنَتِهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ شَحَّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ.

وَالْإِخْرَاجُ: الْإِبْرَازُ من الأَرْض، و (مِنَ) الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوِ الثَّانِيَةُ أَيْضًا

تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ جَمِيعَ الْبَقْلِ بَلْ بَعْضَهُ، وَفِيهِ تَسْهِيلٌ عَلَى الْمَسْئُولِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ:

مِنْ بَقْلِها حَالًا مِنْ (مَا) أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ (مَا تُنْبِتُ) بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَنِ الْحسن:

كَانُوا قوما فِلَاحَةٍ فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ (٢) .

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْفُومِ فَقِيلَ: هُوَ الثُّومُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَإِبْدَالُ الثَّاءِ فَاءً شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قَالُوا: جَدَثٌ وَجَدَفٌ وَثَلَغٌ وَفَلَغٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُوَافِقُ لِمَا عُدَّ مَعَهُ وَلِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ الْفُومُ الْحِنْطَةُ وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ لَأُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:

قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةِ مِنْ مَزَارِعِ فُومُُِ


(١) هِيَ النافية للْجِنْس، المفيدة لاستغراق النَّفْي جَمِيع أَفْرَاد الْجِنْس.
(٢) العكر- بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْكَاف- الأَصْل.