وَاخْتِيرَ فِي إِثْبَاتِ سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى خُصُوصُ عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ السِّرَّ أَخْفَى الْأَشْيَاءِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ. وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ مُذَكِّرًا بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ أَنْظَارُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَادَلُوا فِي ذَلِكَ فِي مَجَامِعِهِمْ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا! وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا (أَيْ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنَّا) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: ٢٢] . وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ النَّاسُ وَمَا يُعْلِنُونَ وَلَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَاظِرَةً إِلَى مِثْلِ مَا نَظَرَتِ الْآيَةُ الْآنِفَةُ الذِّكْرِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ
[هود: ٥] .
يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ بِطَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَتَوْجِيهِ اخْتِيَارِ فَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ دُونَ حَالَةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِ أَنَّ حَالَةَ السِّرِّ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ فِي مَقَامِ الْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ النَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ.
وَأَحْسَبُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ خُصُوصِيَّةً بِهَذَا السِّيَاقِ اقْتَضَاهَا اجْتِهَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute