أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الشَّيْطَانَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا دَعَا الشَّيَاطِينَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا:
وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي فَأَسْلَمَ»
. فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُ لِلْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ قَرِينَهُ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينِ: شَيْطَانٌ قَرِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وِصَايَةُ اللَّهِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْهُدَى مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ كَائِنَةٌ فِي الْعُقُولِ أَوْ شَائِعَةٌ فِي الْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَإِنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي مُدَدِ الْفِتَرِ الَّتِي لم تجىء فِيهَا رُسُلٌ لِلْأُمَمِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، وَحَرَّرْنَاهَا فِي «رِسَالَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ» .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلا يَضِلُّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ الْهُدَى الْوَارِدَ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ سَلِمَ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالٍ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ عَلَى الْعُمُومِ كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ فَلَا يَعْتَرِيَهُ ضَلَالٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَنِ اتَّبَعَ مَا فِيهِ هُدًى وَارِدٌ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَفَادَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى. وَهَذَا حَالُ مُتَّبِعِي الشَّرَائِعِ غَيْرِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَائِعُ الْوَضْعِيَّةُ فَإِنَّ وَاضِعِيهَا وَإِنْ أَفْرَغُوا جُهُودَهُمْ فِي تَطَلُّبِ الْحَقِّ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ضَلَالَاتٍ بِسَبَبِ غَفَلَاتٍ، أَوْ تَعَارُضِ أَدِلَّةٍ، أَوِ انْفِعَالٍ بِعَادَاتٍ مُسْتَقِرَّةٍ، أَوْ مُصَانَعَةٍ لِرُؤَسَاءٍ أَوْ أُمَمٍ رَأَوْا أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِمْ. وَهَذَا سُقْرَاطُ وَهُوَ سَيِّدُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ قَدْ كَانَ يَتَذَرَّعُ لِإِلْقَاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَثِينَا بِأَنْ يُفْرِغَهُ فِي قَوَالِبِ حِكَايَاتٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْخُنُوعِ لِمُصَانَعَةِ اللَّفِيفِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَرَى تَأْلِيهَ آلِهَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute