أَنْ يَأْمُرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقُرْبَانِ دِيكٍ لِعُطَارِدٍ رَبِّ الْحِكْمَةِ. وَحَالُهُمْ بِخِلَافِ حَالِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقُّونَ الْوَحْيَ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى، وَأَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ مُصَانَعَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَكَوَّنَهُمْ تَكْوِينًا خَاصًّا مُنَاسِبًا لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ مُرَادِهِ مِنْهُمْ، وَثَبَّتَ قُلُوبَهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ اللَّأْوَاءِ، وَلَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَإِنَّ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ نَظْرَةَ حَكِيمٍ يَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى مُرَاعَاةِ أَوْهَامٍ وَعَادَاتٍ.
وَالشَّقَاءُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا يَشْقى هُوَ شَقَاءُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا سَلِمَ مِنَ الشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَدُلُ لِهَذَا مُقَابَلَةُ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، إِذْ رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ.
وَالضَّنْكُ: مَصْدَرُ ضَنُكَ، مِنْ بَابِ كَرُمَ ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ
بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنَا مَعِيشَةً وَهِيَ مُؤَنَّثٌ. وَالضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقَالُ: مَكَانٌ ضَنْكٌ، أَيْ ضَيِّقٌ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عُسْرِ الْأُمُورِ فِي الْحَيَاةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا ... أَشْدُدْ وَإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ
أَيْ بِمَنْزِلٍ ضَنْكٍ، أَيْ فِيهِ عُسْرٌ عَلَى نَازِلِهِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى عُسْرِ الْحَالِ مِنَ اضْطِرَابِ الْبَالِ وَتَبَلْبُلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَجَامِعَ هَمِّهِ وَمَطَامِحَ نَظَرِهِ تَكُونُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي إِيجَادِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ لِمَطَالِبِهِ، فَهُوَ مُتَهَالِكٌ عَلَى الِازْدِيَادِ خَائِفٌ عَلَى الِانْتِقَاصِ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْكِمَالَاتِ وَلَا مَأْنُوسٌ بِمَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَبَعْضُهُمْ يَبْدُو لِلنَّاسِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ وَرَفَاهِيَةِ عَيْشٍ وَلَكِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مُطَمَئِنَّةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute