للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ التَّعْرِيضُ بِطَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِدُونِ سُؤَالٍ فَجَعَلَ وَصْفَ نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لَهُ، وَوَصْفَ رَبِّهِ بِالْأَرْحَمِيَّةِ تَعْرِيضًا بِسُؤَالِهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْمَلُ الرَّحَمَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعًا لِلرِّقَّةِ الْعَارِضَةِ لِلنَّفْسِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ تَحِقُّ الرَّحْمَةُ لَهُ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ قَصْدِ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فَهِيَ خَلِيَّةٌ عَنِ اسْتِجْلَابِ فَائِدَةٍ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ.

وَلِكَوْنِ ثَنَاءِ أَيُّوبَ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، أَيِ اسْتَجَبْنَا دَعْوَتَهُ الْعُرْضِيَّةَ بِإِثْرِ كَلَامِهِ وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، إِشَارَةً إِلَى سُرْعَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ فِي الْبُرْءِ وَحُصُولِ الرِّزْقِ وَوِلَادَةِ الْأَوْلَادِ.

وَالْكَشْفُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِزَالَةِ السَّرِيعَةِ. شُبِّهَتْ إِزَالَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَضْرَارِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي يُعْتَادُ أَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِطُولٍ بِإِزَالَةِ الْغِطَاءِ عَنِ الشَّيْءِ فِي السُّرْعَةِ.

وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِبْهَامُ. ثُمَّ تَفْسِيرُهُ بِ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ ذَلِكَ الضُّرِّ لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِهِ بِحَيْثُ يَطُولُ عَدُّهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ٥٣] إِشَارَةً إِلَى تَكْثِيرِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مُقَابَلَتِهِ ضِدَّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّحْل: ٥٣] ، لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ يُهْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي أَقَلِّ ضُرٍّ وَيَنْسَوْنَ شُكْرَهُ عَلَى عَظِيمِ النِّعَمِ، أَيْ كَشَفْنَا مَا حَلَّ بِهِ مِنْ ضُرٍّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ فَأُعِيدَتْ صِحَّتُهُ وَثَرْوَتُهُ.