فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهَا تَشْرِيعٌ عَامٌّ، وَشَرِيعَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ وَإِمَّا لِأَنَّهَا قَدْ تَشْتَمِلُ فِي غَيْرِ الْقَلِيلِ مِنْ أَحْكَامِهَا عَلَى شِدَّةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَمِ الْمَشْرُوعَةِ هِيَ لَهَا مِثْلَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِأَكْثَرِ أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَهِيَ رَحْمَةٌ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٤] ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ عُقُوبَاتِ أُمَّتِهَا جُعِلَتْ فِي فَرْضِ أَعْمَالٍ شَاقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِفُرُوضٍ شَاقَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَقَالَ: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ خِطَابًا مِنْهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّي [الْأَعْرَاف: ١٥٦- ١٥٧] الْآيَةَ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَحْمَةٌ هِيَ عَامَّةٌ فَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُلَازِمَةٌ لِلنَّاسِ بِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِأُمَّةٍ خَاصَّةٍ.
وَحِكْمَةُ تَمْيِيزِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَنَّ أَحْوَالَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَضَتْ عَلَيْهَا عُصُورٌ وَأَطْوَارٌ تَهَيَّأَتْ بِتَطَوُّرَاتِهَا لِأَنْ تُسَاسَ بِالرَّحْمَةِ وَأَنْ تُدْفَعَ عَنْهَا الْمَشَقَّةُ إِلَّا بِمَقَادِيرَ ضَرُورِيَّةٍ لَا تُقَامُ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَمَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنِ اخْتِلَاطِ الرَّحْمَةِ بِالشِّدَّةِ وَمَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَحُّضِ الرَّحْمَةِ لَمْ يَجُرْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْعَدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ وَالَّذِي جَاءَ بِهَا وَالْأُمَّةَ الْمُتَّبِعَةَ لَهَا بِمُصَادَفَتِهَا لِلزَّمَنِ وَالطَّوْرِ الَّذِي اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُمْ تَشْرِيعَ رَحْمَةٍ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute