وَالْمَنْسَكُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ-: اسْمُ مَكَانِ النُّسُكِ بِضَمِّهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى القربان، فَالْمُرَاد بالنسك هُنَا مَوَاضِعُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْبَانِ. وَالضَّمِيرُ فِي ناسِكُوهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ نَاسِكُونَ فِيهِ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ:
نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ الْآيَةَ، فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اه.
قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : «وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا التَّفْسِيرِ يَرَوْنَ الْآيَةَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ فِي الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، أَيْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَالْأَظْهَرُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ يُنَازِعُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ شَهَادَةِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا، فَالنَّهْيُ ظَاهِرُهُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا أُعْطِيَهُ
مِنَ الْحُجَجِ كَافٍ فِي قَطْعِ مُنَازَعَةِ مُعَارِضِيهِ، فَالْمُعَارِضُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبُ نَهْيِهِمْ هُوَ مَا عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجَجِ وُجِّهَ إِلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ إِيَّاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا تَتْرُكْ لَهُمْ مَا يُنَازِعُونَكَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفْكَ، فَجَعَلَ الْمُتَكَلِّمُ النَّهْيَ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ السَّامِعِ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ نَهْيٌ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute